الرواية الأولى

نروي لتعرف

ليمانيات / د. إدريس ليمان

وإنْ تَنَاسَلوا على أرضِهِ ..!!

عندما كانت نابلس وحيفا وبيسان وغيرهما تتهاوى تحت أقدام الجنرال الإنجليزى اللنبى كان القوميون العرب وصُنَّاع الثورة العربية الكبرى ينحرون الجزور ويذبحون الذبائح فرحاً بسقوط الخلافة العثمانية وظَنَّاً منهم أن الوجود البريطانى ما هو إلاَّ أمرٌ مؤقت ومعبراً إلى الملك العضوض .. وكان لورانس العرب ينظر إليهم وقتذاك بإزدراءٍ ممزوج بالإحتقار لخيانتهم وغبائهم السياسى ..!! والقصة معروفة ومُدوَّنة فى صفحات التأريخ .
وبالرجوع إلى الوراء قليلاً بالذاكرة السياسية والأمنية السودانية لستِ سنواتٍ خلت نجد أن ميدان الإعتصام رغم ما إكتنفه من ضجيج ورغم رمزيته للشباب المخلصين الصادقين آنذاك إلاٌَ أنه كان كِنانةً لسهام القوم ينتاشون بها المؤسسات العسكرية والأمنية بقبيح القول ، ويتعمدون إهانتها وفق وسوسة مردة شياطينهم عن قصد لأضعافها وهيكلتها وإقتراح حلَّها بمنتهى إنعدام الحس الوطنى وغياب الفطرة السوية رغم علمهم بأنها ليست ملكاً لأحد ، وأنَّ التفريط فيها خسارة للجميع وفقدانٌ للأمن بل وللوطن أيضاً ..!! ولم يكن فى القومِ حينها من رجلٍ رشيد ليُبقى القيم ويصون الرمز من الإهانة ، وليقول كَفَى كُفّوا أيديكم عنهما ..!!
وفى المشهد الثانى من العرض البائس فى مسرح العبث واللامعقول رأينا تشكيلات الثوار من غاضبون وغيرها من التيارات التى تسيدت المشهد آنذاك وهم يتصرفون بلا رادع ولا وازع متجاوزين كل الخطوط الحمراء قانونياً وأخلاقياً وقد نسجوا من الميدان إزاراً ومن الإعتصام رداءً ومنحوا أنفسهم حصانة ثورية وإعتبروها تأشيرة للمرور على الطُرُق التى مُنع السير فيها لخصوصيتها وإعتباراتها الأمنية ، وتوهموا أنْ بإستطاعتهم توجيه بوصلة المشهد السودانى بعد أن لمسوا تعاوناً وتساهلاً من السلطة الحاكمة ربما لتقديرات خاطئة أو لقراءة غير موفقة لتلك الأحداث المتتابعة والتى أسدل الستار عنها صبيحة الخامس عشر من أبريل كأبيخ وأخيب وأطول مشهد مُمِّل على المسرح السياسى السودانى .
وبينما الشرطة السودانية كانت تنتظر أن تطلع عليها فى ذلك اليوم شمس الحق والصبر من بين طيات السحاب لتحتضن ذلك البطل الصابر الفارس اللواء شرطة أيوب عبدالرحيم مدير شرطة ولاية شمال دارفور والذى ظل لسنواتٍ طوال فى خندقه ممسكاً بسلاحه ويقتسم اللقمة مع أفراده كأبهى وأنضر نماذج القيادة بعد أن فك الله أسره أطلَّت على سماء بلادى مظاهر الفوضى التى إستنكرها وإستقبحها الناس .. وكُنتُ كغيرى أزعم أن سودان ما بعد ١٥ أبريل لن يكون ميداناً للعبث ولا مسرحاً للفوضى بعد كل الذى رآه من دمارٍ وخراب لاسيما وأنه بدأ فى التعافى رغم تمكن السرطان المليشى الخبيث من بعض أجزائه ، ورغم طوفان عربان الشتات وإمتلائه بالجراد الجنحويدى والقُمَّل والضفادع ، ورغم أودية الدماء التى سالت من جوانبه ..!! ولم أتخيل أن بعض القُوى السياسية على ضآلتها وهوانها ستخاطب من وراء البحار أولئك الأغرار الذين لم يستفيدوا من تجارب الماضى بكل مآسيه ومن معطيات الحاضر بكل ما فيه وتحرضهم على إكمال الحريق الذى بدأوه والنار التى أشعلوها من قبل فأطفأها الله .. ولكن وقوف جميع أهل السودان ضد تلك الفقاعات المسمومة التى إنتشرت بالأمس وأرادت نشر خبثها وسمومها فى جسد الدولة السودانية إستنكاراً وإستهجاناً وغضباً أكدت أن تلك الدماء العزيزة والأنفس الغالية ما كانت لتضيع .. وأن أمننا الداخلى لن يُعَكِّر صفوه مثل هذا الهِراء وهذا الرُغاء وهذا النعيق ، ولن تعود بلادنا إلى الوراء شبراً واحداً بعد أن هَبَّتْ عليها نسمات العافية .
أولئك الصبية المعادون لبلدهم قد صورت لهم قياداتهم المتهالكة وأوهموهم من وراء حجاب أنَّ التعدِّى على حماة الأمن يمنحهم وسام الثورة .. وظَلّوا يحثونهم على ذلك الصنيع رغم علمهم اليقينى بأن الإساءة لتلك المؤسسات تُنقِص من هيبة الدولة وتُسقِطها فى أتونِ الفوضى التى دوماً تُضيِّع الأوطان وتُبَدِّد أمان المجتمع وتقوده إلى الضياع .. خاب فألهم ومسعاهم فما من مُخَرِّبٍ لوطنه وجد خيراً أو حقَّق غاية سوى الهزيمة والعار .. فمثل هذه المواضيع لا يمكن أن تُجابه بالصمت لأنها تتعلق بالأمن بمفهومه الشامل فالحياة وطن ولكلٍّ منَّا دوره فى المواجهة والدفاع عن الوطن دون توجيهٍ أو دون تنبيهٍ بل من واقع الإحساس بالمسؤولية الوطنية النابع من مكامن النفس السوية بالسلاح وباللسان وبالقلم .. فالسودان ليس مجرد مساحة نعيش عليها بل هو القيمة التى نعيش من أجلها ..!! والوطن لايضيع إلاَّ حين يتخلى شبابه بعضهم أو كلهم عن وطنيته وعن وعيه وإرادته .. فهل يا ترى أنّ أولئك الفتية الذين آمنوا بمعتقدهم الثورى سيساومون على بلدهم الذى أضحى كالقصعة التى تكالبت عليها كلاب الصحراء وضباعها تلتهم دارفورها وتنهش أطراف كردفانها بتلك الأوهام التى إتخذوها مطيَّة للخراب ..!! أم سيحافظون على السياج الوطنى من الإختراق والإحتراق على السواء ..!!؟ فإذا إنهارت الحواجز الأمنية والعسكرية فى بلادنا فإن واقعنا الهش يسهل على رياح الفتنة أن تعصف به .. فالذين يتخلون عن وطنهم سفاهةً أو خيانةً أو معاندة فإنهم حتماً ليسوا من أبنائه وإن تناسلوا على أرضه .
فيا سادتى إن أردنا أن نبنى سوداناً جديداً قويَّاً آمناً فلابد من مشروع وطنى حقيقى يُسهم فيه الجميع ، ولابد من دولة ترعى وتحمى ، ومواطنٌ يُعَمِّر ويبنى ، ومجتمع يحتضن التنوع ويقاوم التفرّق .. فإنَّ سودان ما بعد ١٥ أبريل لامجال فيه للرخوة والإرتخاء .
تقبل الله شهدائنا وشفى جرحانا وفك أسرانا .. وحفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .. وإنت يالصابر عند الله جزاك وحمداً لله على السلامة أيها الفارس البطل سيادة اللواء شرطة أيوب عبدالرحيم .
✍🏼 د . إدريس عبدالله ليمان
السبت ٢٠ ديسمبر ٢٩٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!