
لشاعرنا يوسف مصطفى التِّنَى قصيدة جميلة كانت ضمن مقررات الصف الخامس للمرحلة الإبتدائية يقول فى مطلعها : صحت الطبيعة فأنتبه ما بال عينك ناعسة .. هذه حبيت وقد بدت فى فتنةٍ متجانسة ..!! .. ولشاعرنا الرقيق عوض جبريل كلمات جميلة تغنى بها أبوعركى يقول فيها : شُفتَ التوب ومالاقانى أجمل منو ..!! بس التوب ..!! .. شوفوا التوب ..!! وسيد التوب يكون كيفنوا ..!!؟ طافت تلك المعانى بخيالى بعد أن إستدعتها الذاكرة المتهالكة عندما قُدِّر لى أن أزور منطقتى قلول ونيرتتى للمرة الثانية حيث كانت الأولى فى العام ١٩٩٧م إبان عملى بالإحتياطى المركزى وهذه المرة أثناء إشرافى على الحملة القومية السنوية لإبادة نبات القِنَّبْ الهندى بمحمية الردوم الطبيعية بدعوة كريمة من إخوة أعزَّاء كُرماء توَّاقون لِسِحرِ الطبيعة لأزور الجمال فى موطنه واللوحة فى مرسمها .. !! وهل هنالك أجمل من الطبيعة ..!!؟ فقلت فى نفسى : شُفتَ قلول ومالاقانى أجمل منو ..!! بس قلول ..!! .. شوفوا قلول وباقى الجبل بطول ٢٤٠ كلم يكون كيفنوا ..!!؟ فجبل مرة يُعَدُّ من أكثر المناطق الجغرافية حضوراً فى الوجدان المجتمعى والذاكرة الأدبية والغنائية لأهل السودان لأنه بحق لوحة فنية ناطقة بكل لغات الجَمَال فى العالم ، تأخذ سِحرها وعطرها وعبقها وملامحها وملاحتها وألوانها من الطبيعة وافرة الجمال التى تستثير العواطف وتُحرك الخيال .. وما أن دخلنا المجال الجوى الساحر ومناخ البحر الأبيض المتوسط إلاَّ وأطَّل علينا الجبل بكامل بهائه ووقاره وصمته الرهيب وسَمتِه المهيب كأنه كائن أسطورى قادم من عمق التأريخ السحيق ، ونطقت ألسنتنا بكلمة التوحيد وبالثناء على رب الجلال والجمال جل جلاله وتقدست أسماؤه وحينها أدرَكتُ أنَّ الطبيعة تُخفى نفسها عن الإنسان رحمةً به وبمشاعره وعواطفه التى هى قِوام حياته ، ووجَدتُ نفسى تعودُ لتلقائيتها ولطفولتها التى فارقتها منذ أكثر من خمسين عاماً وتعود لفرحها ومرحها ولعبها وتنطيطها .. !! ولا أدرى سِر تَذَّكُرِى لكلمات التجانى سعيد فى تلك اللحظات : كل الطيوب الحلوة يا مولاتى والجِيد الرقيق ، واللفتة والخُصل اللى نامت فوق تسابيح الغريق وخُطاك والهدب المكحل وفتنة التوب الأنيق ، فى لحظة مرّت كالظلال تعبر رؤاى إحساس عميق ..!!
فالذى يتنقل فى ربوع السودان تزداد إنفعالات قلبه وعواطفه من ثراء الطبيعة وفقر الإنسان ومن معادلة الجمال الذى من مفرداته السِحر كإستعارة لتكتمل اللوحة ولتمتلك شِغاف القلب ، ولقد عبَّر عن ذلك رمضان حسن فى الحب والجمال فى بلادى بقوله : فى بلادنا مناظر الطبيعة حافِّيها السِحر الحلال ..!! وقد كُنَّا نرى ونحن فى طريقنا من وإلى الجبل البُسطاء من أهل القرى فى غُدوِّهم ورواحهم وهم على دوابِّهم تكسوهم سكينة المؤمنين بالله الواثقين بدينهم يسعون خلف أرزاقهم بِسترِ القناعة واليقين بخيرية اللقمة الحلال .. !! وكُنتُ أُسائلُ نفسى وأنا أتأمل بديع صنع الله وجميل خَلقِه على طول الطريق ما الذى ينقص دارفور لتكون داراً للسودان تأوى إليها أفئدةُ أهله ..!!؟ وهذا الغطاء النباتي والغابى يمتد لمئات الأميال ، وتلك الأنعام لا يُحصِيها عَادٌّ ..!!؟ ولماذا سالت أودية الدماء وسقت الأرض حتى إرتوت وأنبَتَتْ اليُتمَ والتَرمُّلَ ..!!؟ لِتُصبِحَ فى ذاتها سلعة رائجة ورابحة يتهافت عليها كثيرٌ من الناس ويلهثون خلف أثمانها وديِّاتها ويتقاسمونها قبل أن تجف من ضحايا الإقتتال العبثى ..!!؟ وفى ذات الوقت يُلقون باللائمة على الدولة التى لايرى كثيرٌ من أولياء الدم الشُركاء فى الدم أنَّها لا تُحِقُّ حقَّاً ولا تَرُدُّ غصباً ، وأقصى ماتفعله رعاية المصالحات وجمع الديََات ..!! فأصابتهم جميعاً لعنة الدماء وتغيرت الثوابت وإختلط الغث بالسمين والسليم بالعليل والعاقل بالعيي ..!! وتجلَّت أزمة القِيَم والأخلاق فى أوضح صورها .. فَسُلِبَتْ منهم النِعٕمْ وطُويَتْ منهم الأرض التى لم يقوموا بواجب الخلافة فيها بل أفسدوا وسَفَكوا فيها الدماء وزرعوا فيها المخدرات والسموم ودَّمروا العقول .. فنقص فيهم الأمن الإنسانى والمجتمعى ولعل ذلك كان عقوبةً إلهية لكفرهم بنعمة ربهم ولجحودهم ونكرانهم لما أنعم عليهم من هبات فكأنَّ حالهم كأهل القرية الآمنة المطمئنة التى كان يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله جحوداً ونكراناً وقلة أدب ..!! فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كان يصنع أهلها من مخازٍ وموبقات .. !! أما والآن والسيوفُ فى أغمادها ، وأقلام الفتنة قد جفَّت أحبارها وجاء السلام وإن كان منقوصاً فعلينا جميعاً حُكّاماً ومحكومين أن نتّقى الله فى سوداننا ، وَلِنَعلَمَ أنه لنا جميعاً ، وكُل واحدٍ مِنَّا مرابطٌ على ثغرٍ من ثغوره ( جُنديّاً أو شُرطيّاً ، مُعَلِّمَاً أو طالباً ، موظفاً أو عاملاً ، تاجراً أو مزارعاً ) فعليه الاَّ يؤتى السودان من قِِبَلِه ، ولِيُقَدِّم كُلّ واحدٍ من موقعه أقصى مايبلغ وسعه فى سبيل تحقيق بناء الوطن .. فالأمة التى تتطلع لبناء مستقبلها ، وترسيخ كيانها ، وإستتباب الأمن بمفهومه الشامل فى ربوعها لابد أن تستقيم حياتها على الحق دون الباطل ، وعلى العدل دون الجور ، وعلى الشرع دون الهوى ، وعلى العقل والعلم دون الجهل والوهم ، فأوجب ما يجب الإنتباه إليه هو ما يمس حياة البسطاء وحقوقهم وما يتصل بمصالحهم وتدبير شئونهم .. والأمة التى لايُقدّس فيها الحق ولا يُحترم فيها الواجب ولا تَستَعلى فيها العدالة ، ولايُنتصف فيها للمظلوم من الظالم فهى أمَّة مهددة فى وجودها وكيانها ..!! وعلى النُخب السودانية أن تَخصِف عليها من ورق الحياء وتنبذ عنها السلبية وتنتفض ضد حالة الضياع التى تسكنها ، وأن تعى أنها جزءٌ مهم فى معادلة الإصلاح والإرتقاء بمشاريع التنمية فى كل أرجاء بلادنا ، وأن تبعث فينا الأمل .. فإننا نفقد كل يوم جزءًا من أمل دولة التنمية والرخاء والإستقرار التى نَنْشُدُهَا وكنَّا نحلم بأن نتفيأ ظلالها ذات يوم وذلك بخيباتنا المتكررة والمتلاحقة ، فالتاريخ لن يرحم من يتخاذل فقد تعلمنا منه أن الأمل يُبعثُ من ركام المآسى ، ولا شئ فى السودان يستحق أن نستمر فى الحياة من أجله غير خيوط الأمل التى تَنسِجُ لنا ثوب الفرح ليعود لينا ليل الفرح وليبتسم السودان..!! وحين يبتسم الدنيا ياناس تنقسم والفرحة تملاها وتزغرد فيها والشوق يترسم..!!
حفظ الله بلادنا مستودعاً للجمال وواحةً للأمان وأدام علينا وعليها نعمة الأمن والإستقرار .
✍🏼 د . إدريس عبدالله ليمان
كُتب المقال أعلاه بمدينة نيالا الجميلة ( فك الله أسرها وردّ غربتها ) فى ٢٨ أغسطس ٢٠٢٢م أثناء الإشراف على آخر حملة قومية قبل الحرب لإبادة نبات القنب الهندى بمحمية الردوم والتى حققت نجاحاً غير مسبوق فى تأريخ الحملات بحرق آلاف الأفدنة المزروعة وإبادة مئات الأطنان من السموم بشهادة حكومة الولاية ولجنة أمنها التى أقامت إحتفالية إستثنائية لتلك الحملة عند إنتهاء مهامها وكان الفضل فى ذلك النجاح بعد الله سبحانه وتعالى يرجع لمدير شرطةولاية جنوب دارفور اللواء ودالزين ولقائد الفرقة ١٦ مشاة الشهيد اللواء الركن ياسر فضل الله وللإخوة العمداء آنذاك عمر محمد إبراهيم ومحمد خليل مرسى وخميس أحمد مدنى وعوض أركب ومحمد صديق والقمر ولؤى شبو ، والعميد جودات ( قائد متحرك الصياد الآن ) والمهندسين المنتدبين من منظومة الصناعات الدفاعية بطائرات الدرون التى تم إستخدامها لأول مرة فى كشف أماكن الزراعة ، وأسرة مكافحة المخدرات بنيالا بقيادة على عكاشة وجميع قوة الحملة قائداً وضباطاً وأفراداً ..أُعيد نشر المقال القديم بمناسبة اليوم العالمى لمكافحة المخدرات الذى يوافق السادس والعشرون من يونيو من كل عام ، وتصحيحاً للخبر المغلوط والمنسوب لمدير شرطة ولاية القضارف بأن ٨٠٪ من شباب الولاية يتعاطون المخدرات والذى أحدث ربكة مجتمعية ورعباً حقيقياً داخل الأّسر ، وأثار لغطاً كثيفاً ..!! فبالإستيثاق علمتُ أن الخبر كان إجتهاداً وتأويلاً خاطئاً من الذى قام بنشره .. وعلى الرغم من النشر الضار إلاّ أن الأمر كان فى باطنه خيراً بلفت الأنظار إلى خطورة تعاطى وإنتشار المخدرات بين الشباب وهو أمر واقع وحقيقى يستوجب الإنتباهة واليقظة ..!!
حفظ الله بلادنا وأبنائها وشبابها وجميع أهلها من كل سوء .