✍️ خالد موسي دفع الله
في الحوار التلفزيوني الذي أجريته مع عالم الاثار السويسري شارل بونيه وبثته قناة الشروق في برنامج ( الحد الأدني) قال ان المجتمع والفرد السوداني يتسم بدرجة من الغموض عندما يرتفع سؤال الهوية. وأشار ان تجربة وحصاد عمله في السودان التي امتدت لثلاثة وخمسين عاما برغم ثرائها الاجتماعي واحتكاكه بالناس من اهل الحضر والمدر و النخب وغمار الناس فانهم جميعا لا يحبون الحديث عن حياتهم الاجتماعية او الخاصة. وقال ان هذا الغموض هو عمق ازمة الهوية في السودان. هل في هذه العبارة رجع صدي لما قاله فرانسيس دينق من قبل ان ” ما يفرقنا هو ما لا يقال”.؟
يقول العلامة وليام ادمز صاحب كتاب ( الحضارة النوبية المعبر نحو افريقيا) ان الديمقراطية الحقيقية الوحيدة التي جربها السودان كانت في العصر الحجري ، اما طوال تاريخ الحضارات السودانية الممتدة فان المجتمع قام علي تراتيب هرمية وطبقية من ملوك وكهنة وعسكر وشغيلة وعبيد و افتقد بفعل هذا التصنيف لابسط مقومات الديمقراطية في ابرز معاييرها الحاكمة وهي المشاركة السياسية او تقرير المصير للمجتمع . وبذلك أعاد وليام ادمز السؤال الحضاري والبناء الديمقراطي الي موضعه الثقافي الوجودي اكثر من قشور الجدل السياسي.
في المقابل اكد الدكتور المنصف المرزوقي في حواراته مع النخب في السودان ان سؤال الهوية اصطنعته النخب لتحقق به تطلعاتها السياسية، اما المفكر الراحل الشيخ حسن الترابي فكان يري ان سؤال الهوية اسخف سؤال أنتجه العقل السياسي السوداني.
ويري في ذات الإطار الدكتور الباقر العفيف في ورقته ذائعة الصيت ” قوم سود ذوو ثقافة بيضاء” والتي ترجمها المرحوم الخاتم عدلان الي ان اهل السودان وقعوا في احابيل كراهية الذات لأنهم يتمثلون ثقافة مزيفة ينزعون الي نيل رضي العمق العربي، ويستعلون علي هامش الثقافة الافريقية.
و قد ورد في كتاب ” الأخلاق السودانية” للدكتور نوردتسام الذي ترجمه وحققه الدكتور المرحوم محمد علي محمد المهدي ان اهل السودان يحبون الغموض عند الحديث عن أنفسهم وفِي ترخصات كسبهم الشخصي.
قال القس ترمينغهام في كتابه ” الاسلام في السودان” ان المثقف السوداني يعاني انفصاما نفسيا اذ ان غرفة استقبال ضيوفه أوروبية الطابع وغرفة نومه غارقة في الطقوس المتخلفة و التقاليد المحلية البالية بما في ذلك تكريسه لعزلة المرأة ودورها الاجتماعي .
وهذا ايضا ما اشار اليه ادوارد عطية وهو يصف معاوية نور
عندما قال ان عقله يعيش مع فلاسفة الغرب لكن جسده في مكان متخلف ثقافيا عن تطلعاته. وكتب قلم المخابرات حينها مستر بني ان عودة معاوية الي السودان من القاهرة تعني حتمية الموت العقلي له. وقد صدقت نبوءة الخواجة.
هل هذا الغموض الذي يكتنف شخصية المثقف والمجتمع السوداني في الكشف عن حيواته نتيجة انفصام نفسي بين تطلعات وآفاق عقلية مفتوحة وواقع اجتماعي متخلف. ومع ذلك فإن ابلغ نص يمثل تجليات الحالة السودانية مما تمت مناقشته حول الغموض في الشخصية والمجتمع السوداني هو ما كتبه معاوية نور في مقالته المشهورة عن ام درمان اذ صعقه الوضع الاجتماعي في الثلاثينيات بعد عودته من الدراسة في الجامعة الامريكية في بيروت اذ استبان في العيون رهق وفِي النظرات سهوم وفِي المحاجر والعروق نبض خفيض يجافي إيقاع الحياة.
كانت تشير نظرات معاوية نور الثاقبة في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي ان اهل السودان مولعون بالغناء رغم انه غناء كئيب حزين ولكن لا يَرَوْن فيه حزنا ولا كآبة، لارتباطها الوثيق بحياتهم. يقول معاوية “فإذا غني المغني : يا حبيبي خايف تجفاني غناها المغني بصوت عالٍ و رددها الكورس ترديدا شجيا طرب واشتد الرقص،و اشتعل النظارة حماسا ونسي كل نفسه في موجة طرب ورقص، فيعرف المشاهد ان هذا الشعب وطد نفسه علي قبول الحياة كما هي بلا ثورة وكان له في آلامه الدفينة البعيدة القرار نعم السلوي عن الحاضر ، نعم العزاء عن الآلام وتلك هي نعمة الاستسلام والحنين ومظهر الاستهتار بألم طال وتأصل فانقلب فرحا ونعيما”.
وقفت الالمانية ربيكا غاليت قبل أسابيع خلت في قاعة الشارقة في اطار مؤتمر معهد الدراسات العربية القطري بالخرطوم لتقدم ورقتها عن الهوية وموسيقي الجاز في السودان، لتؤكد انها ولدت من رحم احد مؤسسات الحداثة وهي موسيقي الجيش السوداني، لتشير الي ان الجاز حمل هوية الأقليات السوداء في امريكا لكنه في السودان عبر عن نمط مغاير نشأ ضد التيار والتراث الموسيقي السائد من رحم الطبقة الوسطي.
ويقول الناقد الدكتور احمد محمد البدوي في كتابه ” تجليات ناقد الحداثة”، ان معاوية توصل الي نتيجة خطيرة عدها من جوامع الكلم في شان الشخصية السودانية، وأشار الي هذا المعني تسرب الي شعر التجاني يوسف بشير الذي استلذ بالغموض وتجاوز الالم بل ترسخ عنده السمة اللازمة للمجتمع حينها وهي الفرح بالحزن، ويزعم د. البدوي ان الطيب صالح ايضا تأثر بنبرة معاوية وتأملاته وهو يكتب عن الجدب والقحط في السودان واصفا هذه الارض انها لا تنبت سوي الأنبياء ولا يداويها الا السماء.
وهل في ثقافة التصوف والزهد التي وسمت منابع الحياة السودانية الا صدي لهذه الرؤية التي أنجبت القباب المنتشرة في اصقاع السودان وأخرجت محمد احمد المهدي في ثورته المجيدة، والهمت حسن الترابي توترات سؤال النهضة والحداثة الاسلامية و أيقظت الحس العرفاني عند محمود محمد طه وهو يبحث عن صيغة اسلام تقدمي لا يصادم القيم العلمانية السائدة رغم اتهامات الاغراق في الشطح.
هذا الجدل يعيدنا لفرضية الدكتور النور حمد حول ” العقل الرعوي” كأنه يستبطن العودة الي تاريخ ما قبل الاسلام واستلهام روح الحضارة النوبية القديمة لصناعة النهضة، لان جحافل الهجرات العربية البدوية نشرت نسخة متشبعة بالتقاليد والثقافة البدوية من الاسلام مما يصادم تقاليد الحضارة النوبية المدنية الموروثة.
وقد استبق الاستاذ عبدالقدوس الخاتم الدكتور النور حمد في صياغة ما اصطلح عليه وأسماه ” بالعقل الصحراوي” وأتخذ من اشعار محمد سعيد العباسي شاهدا ورمزا لها.
لكن المقاربة التي أنتجها العقل النقدي للمثقف الأكبر معاوية نور حول تلاحم سيرورة القيم السودانية في مقام تطبيع الحياة علي الحزن والالم الدفين بل وتشييد منارات الغناء والطرب السوداني في منابعه الأولي علي أوتار ذلك الحزن
المقيم والرقص والطرب علي إيقاعه علي انه مجافاة للحياة والفرح بالحزن لانه طبع متأصل في الثقافة والحياة السودانية.
ولا شك ان التطريب الذي أنتجته عبقرية الغناء والتلحين عند وردي عن أغنيته الباذخة ” الحزن القديم” فيها بعض من بعض أصداء تلك المعاني ووهج من وشم هذه الذاكرة التاريخية.
لذا فان تيار الغناء الجديد الذي يحترفه الشباب وينكره عليهم الشيوخ والنخب واتهامه بالسطحية واستتفاه الحياة ربما يشكل برزخ القطيعة التاريخية مع ميراث الحزن والالم في تاريخ الذاكرة الثقافية الجريحة للمجتمع السوداني. ويجب الا نهتم بشكل الاغنية او حتي جماليات كلماتها او بلاغة معانيها او سبك قوافلها بقدر اهتمامنا بان تتحول الي ظاهرة اجتماعية وتيار ثقافي عريض لتكريس القطيعة التاريخية مع تاريخ الحزن الموروث في الثقافة السودانية التي تعتبر الاغنية احد ابرز تجلياته في المشهد الثقافي والاجتماعي.
لذا فان ظاهرة الاحتفال الهستيري بالراحل الفنان محمود عبدالعزيز ليست هي اجتراح ثقافة فرعية كما قال البروفيسور عبدالله علي ابراهيم بقدر ما هي احد ابرز تيارات هذه القطيعة مع ميراث ذاكرتنا الثقافية الجريحة.