الرأي

من هم الثوار وما هي الثورة وما هي أهدافها ؟ دعوة للإنقلاب الفكري وثورة المعرفة

بروفسير محمد حسين أبوصالح •


عقب اندلاع ( التظاهرات الشعبية ) في ديسمبر 2018، برز للساحة عدد من الفاعلين السياسيين الذين حاولوا قيادة الفترة الاتتقالية، وقد برروا شرعيتهم لهذه المهمة بمشاركتهم في قيادة ( الثورة ) أو المشاركة فيها، وبما أن هذا الأمر بالغ الجدية لكونه يتعلق بممارسة صلاحيات تستمد عادةً بالتفويض الشعبي عبر الانتخابات أو الاستفتاء، وبما أن ضبابية مفهوم الثورة ومن هم ( الثوار )، وضبابية المرجعية التي تحدد أهداف الثورة التي تشكل مرجعية لتوجهات السلطة الانتقالية وسياساتها، والتي ربما تصبح وسيلة لتخطي الإرادة الشعبية لتحقيق أجندات تنظيمية أو شخصية أو مصالح خارجية، وربما تشكل تهديداً للأمن القومي، لا سيما أن كثيراً من التدخلات الأجنبية تنفذ عبر ثغرات العجز في تحديد مفهوم بعض المصطلحات، الشئ الذي أراه نوعاً من الأدوات الذكية التي تمثل ثغرة تتمدد عبرها الاستراتيجيات والسياسات الخارجية وبعض الأجندات الحزبية الضيقة.. فإن كنا جادين في صيانة استقلال الدولة وحل الأزمة الوطنية والعبور نحو المستقبل وصناعة الدولة التي يحلم بها الشباب دعونا نؤسس للحقائق ولبعض المصطلحات التي وقفت خلف المشهد السياسي السوداني ليس بعد تظاهرات ديسمبر 2018،فحسب، بل ظلت تؤثر بشكل مباشر على المشهد السياسي السوداني منذ الاستقلال، وسأركز في هذا المقال على الحديث عن مفهوم الثورة وبالتالي من هم الثوار، حتى نستطيع بناء المعادلة السياسية وإدارة فترة الانتقال بطريقة صحيحة تمنع احتكار البعض للثورة كما تمنع محاولة تخطي الإرادة الشعبية من أجل تحقيق أجندات غير وطنية، وأرجوا أن يجد المقال حظه من النقد العلمي بما يؤسس لتوافق مبني على أسس علمية حول هذه المفاهيم.
ما هي أهداف المتظاهرين؟
لعل من الأشياء التي أخطأ فيها الوسيط الإفريقي في العام 2019، هي عدم اهتمامه بالتحديد القاطع لماهية أهداف الثورة التي ستشكل مرجعية الفترة الانتقالية، كما لم يحدد من هم الثوار وكيف تم الحصول على تفويضهم، وفق مفهوم علمي مسنود بالبراهين.
ونحن نتطلع لتصحيح المسار الانتقالي، يتوجب علينا تحديد أهداف الثورة، وفي هذا الصدد أرجوا أن أشير لدراسة قمت بها خلال فترة الاعتصام بغرض تحديد أهداف المتظاهرين، حيث قمت بعمل حصر للشعارت الأكثر ترديداً من قبل المتظاهرين ومن ثم تحليلها بجانب تحليل طبيعة الحياة الاجتماعية التي جرت في ساحات الاعتصام والأشعار والقصائد، ووضعتها في شكل مصفوفة،مع استبيان لعينة من المتظاهرين، وعندها توصلت لتطلعات المتظاهرين، ويمكن اختصارها فيما يلي :
يرغب الثوار في تحقيق النهضة والمحافظة على وحدة الشعب والتراب السوداني.. وإسقاط النظام يعني بنظر الثوار إسقاط للممارسة التقليدية للسياسة وإسقاط للفكر والتفكير التقليدي وإسقاط للفساد والمحسوبية والتمييز والعنصرية وإسقاط لكل ما يمتهن عزة الدولة وكرامة المواطن السوداني، و يعني الرغبة في وضع جديد يعبر عن عكس سلبيات النظام السابق بل سلبيات العقود الماضية، وضع يحلم فيه الثوار بسودان مختلف وأهداف مختلفة وسلوك مختلف، سودان بأهداف كبرى تتناسب وتاريخه وموارده البشرية والمادية ومزاياه المختلفة .. مما يعني الحاجة لمشروع حلم سوداني يعبر عن وجدان الجميع.
يفتخر الثوار بالتاريخ السوداني ويرغبوا في إعادة إنتاج نموذج سوداني مشرف من خلال إقامة دولة مدنية دولة متقدمة تنعم بالرفاهية، تسع الجميع، يسودها السلام الاجتماعي الذي يحترم التنوع ويحترم الآخر، تحفظ كرامة السودان وعزة وكرامة المواطن السوداني، تحمي وتحافظ على كل اعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية او الدينية او الفكرية يفهم روح الإسلام، تقوم على السلام والتسامح، أساسها الحرية والسلام والعدالة، تنتهج صيغة سياسية ترتكز على العلم والإبداع والأخلاق، يتم تحقيق التغيير فيها بالطرق السلمية، ننبذ فيه العنف، سواء عنف الكلمة أو عنف السلاح، يتم تداول السلطة فيها سلمياً. تقوم على الهوية السودانية، تسقط فيها العصبيات الجهوية والقبلية، تؤسس للعدالة بمفهومها الواسع، يتم فيها ممارسة الحكم الراشد من شفافية ومحاسبة وسيادة للقانون، من خلال مؤسسات قومية سواء مدنية أو عسكرية تقوم على المهنية والكفاءة، مع رد المظالم والحقوق، ومحاسبة كل من أفسد وأجرم.
التظاهر والثورة:
بالنظر لهذه الأهداف نكتشف بداهة أن تحقيقها لا يتوقف فقط على عملية الإسقاط التقليدي، وإنما هناك جوانب أخرى يجب استيفاؤها حتى نحقق هذه الأهداف والتطلعات، فمن المؤكد أن العملاق الياباني لم يبرز كقوة عظمى نتيجة تظاهرات شعبية، ولم تكن التظاهرات هي السبب للنهضة المذهلة لكوريا الجنوبية أو سنغافورة أو ماليزيا، ولو كان سبب النهضة هو التظاهرات فقط، فلماذا لم تستطع ثورات الربيع العربي تحقيق غاياتها، في الواقع اكتفت بإسقاط الأنظمة دون اعتبار لما بعد السقوط وما هو النظام البديل وما هي الفكرة البديلة، وما هو المنهج لذلك وما هي الآليات المطلوبة، وبذات المنطق لم يستطيع السودان الخروج من الدائرة الخبيثة والعبور نحو النهضة عقب ثورة اكتوبر 1964 أو ثورة أبريل 1985 ، بينما حدث هذا التدهور والاستقطاب بعد ثورة ديسمبر 2018.
من المؤكد ونحن نعيش عصر ( ثورات ) المعرفة والابتكار والذكاء الاصطناعي عصر التخطيط الاستراتيجي ودراسات المستقبل، أن نستوعب أن حل أزمة السودان وبناء الدولة وتحقيق النهضة الطموحة، لا يتأتى فقط بعمليات الإسقاط التقليدي، لذلك علينا أن نفرق بين التظاهر والثورة بمفهومها الشامل، فهناك إسقاط عام لنظام يغير بعض الأشخاص وربما بعض الأفكار، وهناك إسقاط للأفكار الضارة والسلوكيات السيئة، كإسقاط المحسوبية والفساد والممارسة التقليدية للسياسة،والذي يتطلب ترتيبات أخرى ليس من بينها التظاهرات.
نماذج :
أتناول فيما يلي بعض النماذج لتطلعات المتظاهرين والتعرف على كيفية تحويلها إلى واقع :
تأسيس الدولة المدنية :
إن نظرنا لتطلعات المتظاهرين في تأسيس الحكم الراشد، تأسيس الدولة المدنية، دولة العلم والقانون والنظام والمؤسسات، وتحديد كيف يُحكم السودان، سنجد أن ذلك لا يتحقق إلا عبر استراتيجيات وسياسات متقنة وحشد معرفي يستوعب تعقيدات إدارة الدولة مثل تعقيدات البيئة الداخلية وما فيها من تنوع ومن هشاشة ثقافية واجتماعية وسياسية، وتعقيدات البيئة الخارجية وما فيها من صراع وتنافس وأدوات بالغة التطور، فضلاً عن تشكيل ثقافة وسلوك وطني يدرك الفرق بين مفهوم الدولة أو الحكومة أو الحزب، كما يتطلب وجود أحزاب عصرية تمارس الحكم الراشد في داخل مؤسساتها وخارجها، لها القدرة على التواصل مع مستودعات الفكر والمعرفة والابداع، قادرة على توفير قيادات سياسية مؤهلة لإدارة الدولة في ظل التعقيدات والظروف العصرية.. كما أننا سندرك أن سقوط الفساد والتمكين والإقصاء، يحتاج لفكرة تمنع الفساد عبر السياسة والقانون والتربية والثقافة والتحول الرقمي، وليس مجرد ترديد للشعارات، مما يعني الحاجة لفكرة وطنية تمنع ذلك وتؤسس لترتيبات علمية وضوابط راشدة، وبالتالي أي جهد يبذل في هذا الاتجاه يجب أن يصنف ضمن الثورة.
تحقيق السلام المستدام:
وإذا نظرنا بعمق لتطلعات المتظاهرين لتحقيق السلام المستدام سنجد أنه لن يتأتى عبر المواكب ولا عبر النظر أمام البندقية ولا عبر توقيع اتفاقيات السلام، فقد أثبتت الأيام أننا تظاهرنا كثيراً، كما طفنا كثير من مدن العالم وفنادقه ووقعنا عشرات الاتفاقيات إنتهاءً باتفاقية جوبا، ولم يتحقق السلام ولن يتحقق إلا عبر النظر خلف البندقية وخلف الحدود.. خلف البندقية، حيث إنسان يفتقد للتنمية وللخدمات من مياه شرب وتعليم وصحة وبيئة وفرص عمل فضلاً عن الإحساس بالظلم والامتهان، ليصبح المدخل للعلاج هو تحقيق التنمية المستدامة المتوازنة التي تغطي كافة أرجاء السودان، يتمتع فيها أي سوداني بالكرامة والعدالة دون أي اعتبار لإنتماء ثقافي أو عرقي أو جهوي إلخ..
وتمتد عمليات تحقيق السلام المستدام من خلال النظر خلف الحدود حيث تعقيدات البيئة الخارجية وما فيها من خير وفرص وصراع استراتيجي وتنافس دولي، ظلت تؤثر على المشهد السودان، يتم احتواؤها عبر ترتيبات استراتيجية للتعاون الدولي .
تحقيق النهضة الاقتصادية :
وإذا نظرنا للتطلعات الاقتصادية بتحقيق الرفاهية وتحقيق النهضة الاقتصادية التي تجعل السودان قوة اقتصادية عالمية، تجعل من كل ولايات السودان مراكز حضرية متطورة نزيد فيها الدخل القومي ونوزعه بشكل أكثر عدالة، وما يرتبط بذلك من تحقيق القدرات التنافسية العالمية وتأسيس واقع مائي جديد وامتلاح الحصص الاستراتيجية في الأسواق، فهذا يحتاج لرؤية اقتصادية عميقة، ولنا العبرة في المدارس الفكرية العديدة في العالم، وليس مجرد تظاهرات وليس مجرد حصول البعض على كراسي سلطة دون رؤية.
كما أن تحقيق دولة الرفاهية تحتاج لتأسيس تعاون دولي يقوم على إدارة تبادل استراتيجي مع العالم، يؤسس لمصالحنا الوطنية، وهذا يستدعي إدراكنا لمصالحنا الوطنية، وأن تحديد المصالح الوطنية يحتاج لتخطيط استراتيجي شامل يدرك بعمق كافي نقاط القوة الوطنية وكذا نقاط ضعفنا التي تستوجب العلاج، كما يدرك كل الفرص المتاحة وما يقابلها من مهددات، وهذا بالضرورة لن يتأتى دون رؤية استراتيجية شاملة، أي نضال فكري.
التناقض بين إدعاء الثورة والسلوك السلبي:
إن كنا جادين في التغيير ونرغب في تحقيق ثورة حقيقية، فلن يكون مقبولاً ان يمارس الثائر الفساد والإقصاء والتمكين والمحسوبية والعنصرية وقبول الرشوة وتعطيل العمل ( أمشي وتعال بكرة ) وندمر الطرقات والحدائق والبنى التحتية، كما أن مفهوم الثورة لا يلتقي مع السلوك البيروقراطي أو الفساد الحكومي.
الهندسة الإنسانية:
وكل ما سبق لن ينجح دون ثورة ثقافية، لن يتحقق إلا إذا قمنا بعمليات الهندسة الإنسانية، أي البناء النفسي والأخلاقي والثقافي والاجتماعي والمعرفي ومهارات التفكير ومهارات الحياة للمواطن، عندها تنتهي العصبيات ويرتقي الإنسان من ضيق الإنتماءات الجزئية إلى الإنتماء الوطني بل والإنساني، وتتشكل الهوية السودانية وثقافة السلام والتسامح وثقافة الحكم الراشد التي تؤسس لاحترام النظام والقانون وإعمال مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبة والتداول السلمي للسلطة،فضلاً عن تشكيل العقل الجمعي والبناء المعرفي ومهارات التفكير الإبداعي، وغيرها مما هو مطلوب لتحقيق النهضة والسلام المستدام، وهذا بالضرورة يحتاج لرؤية وطنية مسنودة بحشد معرفي ومرجعيات فكرية تعبر عن الوطن، ومن يسعى لتحقيق ذلك يعد ثائراً من الدرجة الأولى.
الفقر في التفكير :
هذه مجرد نماذج محدودة تكشف أن عمليات تحقيق أهداف المتظاهرين المتمثل في النهضة والسلام المستدام ، يتوقف على مدى وجود فكرة وطنية مسنودة بحشد معرفي كبير وسياج أخلاقي، وسنكتشف أنه لا يكفي أن نمتلك الموارد البشرية من خبراء ومهنيين وهم كثر في السودان، ولا الموارد الطبيعية من أراضي خصبة ومياه ومعادن وموارد طاقة وأحجار زينة ورخام، ولا والمزايا الجغرافية في قلب إفريقيا بين العرب والفضاء الإفريقي على ساحل البحر الأحمر ، ولا الفرص والمصالح الضخمة المتاحة للسودان، ولو كان ذلك فقط هو المطلوب لكان حالنا الآن مختلف، وبنفس المستوى لن تحقق التظاهرات النهضة، ولو كان ذلك صحيحاً لكنا في حال غير الحال، حيث لا معنى لتوفر تلك الموارد دون وجود الفكرة الوطنية الشاملة الناضجة، نحن أغنياء في كل شئ تقريباً لكن فقراء في التفكير الاستراتيجي الجمعي، نمتلك كل شئ تقريباً لكنا نفتقد الرؤية، لنقف أمام حقيقة مهمة أن بداية التغيير والإصلاح تحتاج لرؤية، وهو مدخلنا للفهم الصحيح لمفهوم الثورة.
مفهوم الثورة :
بناء على كل ما سبق، يعتبر مشاركاً في الثورة كل من أسهم في الإصلاح الوطني وفي التغيير، سواء من داخل السودان أو من خارجه، طالما كان ذلك من أجل تحقيق المصالح الوطنية، وطالما كان منضبطاً بإطار السيادة الوطنية والضوابط الأخلاقية، وفي إطار المفهوم الذي يفرق بين العمل للدولة وليس لحزب أو جهة ( ما )، وذلك وفق مفهوم الثورة الشاملة المكتملة التي تشمل كل النضال قبل الإسقاط وبعد الإسقاط، فإنها تشمل الانتفاضة الشعبية وكافة عمليات التأسيس للغايات والقيم التي من أجلها قامت الثورة، وتشمل الترتيبات العميقة المطلوبة لحل الأزمة الوطنية وكسر الدائرة الخبيثة التي ظل يدور فيها السودان بين حكم مدني وعسكري وانتقالي ومدني، إلخ، كما تشمل صناعة المستقبل وما يتطلبه من ترتيبات ورؤى للتعامل مع تعقيدات الصراع والتنافس الدولي وثورة المعرفة والابتكار والاختراع والتحول الرقمي والإبداع والذكاء الإصطناعي، وتشمل كافة الجهود التي تبذل لبلورة وتطبيق الرؤية الوطنية الاستراتيجية الشاملة التي تؤسس لكل ذلك، سواء بالإنتاج المعرفي أو تشكيل العقل الجمعي الوطني أو صناعة الرأي العام أو تشكيل الوعي الوطني وتهيئة المناخ للإصلاح والتغيير أو نشر ثقافة الشورى والديمقراطية والتسامح وتأسيس مسرح وطني تسوده مشاعر وطنية موحدة، ويشمل كل من الفئات التالية :
الذين مارسوا النضال الفكري القائم على الإصلاح العميق الذي يعتمد على تأسيس الرؤية الاستراتيجية الشاملة التي يتم عبرها حل جذور المشكلات والتعامل مع الظروف والأوضاع الداخلية والخارجية في سبيل تحقيق النهضة والسلام المستدام، وما يشمله ذلك من بذل الإنتاج المعرفي.
الذين مارسوا النضال السياسي.
الذين شاركوا في ثورة الوعي وصناعة الراي العام والوعي الوطني وتشكيل ثقافة وطنية جديدة تؤسس للإصلاح والتغيير وترسيخ الحكم الراشد والهوية السودانية، ولمفهوم الدولة كإطار للعمل السياسي، وللتسامح والإحساس بالآخر، سواء عبر الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي أو عبر بناء القدرات.
الذين مارسوا نضال الشارع عبر التظاهرات الشعبية والمواكب وتنظيم الاعتصامات طوال فترة الإنقاذ .
الذين شاركوا بمساهماتهم المادية والمعنوية لدعم النضال بمجالاته المختلفة.
الحركات المسلحة التي قادت النضال العسكري وسقط منها الشهداء والجرحى طالما كانت منضبطة بالسيادة الوطنية والأخلاق.
أسر الشهداء والجرحى الذين بذلوا أرواحهم ودماؤهم طوال فترة الإنقاذ في كافة أنحاء السودان، بما في ذلك شهداء وجرحى انتفاضة 2013 .
حوار:
حول هذا الموضوع، كنت اتحاور مع زميل ينتمي لأحد الأحزاب السياسية، قلت له : ما هو تعريفكم لنشاط حزبكم خلال فترة الإنقاذ ؟ ألم يكن نوعاً من النضال الذي انتهى بسقوط شهداء ودخول العشرات للسجون وتسبب في معاناة أسرهم لفترات طويلة ؟
قلت له إذا اعتبرتم ذلك نوعاً من النضال السياسي الذي تم خلال فترة الإنقاذ، فسينسحب ذلك على كافة أنواع النضال الأخرى المشار لها في هذا المقال، وبالتالي الاعتراف بأن الثورة بدأت قبل 2018، إلا أن ( التظاهرات ) انطلقت في ديسمبر، وبالتالي يصبح شريكاً في الثورة كل من سعى للتغيير والإصلاح عبر نضال الوعي وثورة الثقافة وكل من مارس نضال الفكر ونضال الشارع الذي جرى في 2013 وقبلها وبعدها، وسيشمل كل من بذل روحه ودمه وسقط في أرض السودان خلال السنوات الماضية وليس فقط من سقط في الخرطوم خلال ما بعد ديسمبر 2018، أي أنه لن يكون مقبولاً أن نبدأ حساب النضال من تاريخ ديسمبر 2018،ولن يكون مقبولاً أن نسمي المتظاهرين هم فقط الثوار.
ثورة ناضجة مكتملة الأركان:
كنت ولا زلت على قناعة بأن الثورة السودانية وأي محاولات أخرى للتصحيح وتشكيل مستقبل السودان وتحقيق نهضته وأمنه القومي وصناعة مستقبل أفضل يحقق أمن وسعادة إنسانه ، لن تجدي نفعاً دون هذا البُعد المفقود.. ونحن نعيش عصر الثورة المعرفية وثورة الابتكار والاختراع والإبداع والذكاء الإصطناعي، سنكون في حاجة لإنقلاب معرفي ولثورات فكر تستند على الأخلاق والإخلاص الحقيقي، وليس بالانقلابات العسكرية والعمل المسلح وفوهات البندقية أو الاكتفاء بنضال الشارع، ولن تكتمل الثورة السودانية إلا بهذا النضال الفكري، ( البُعد المفقود في السودان ) ومدى قدرتنا على تطوير طريقة التفكير والتخطيط والتنفيذ، بما يقود لبلورة ومن ثم تحقيق رؤية استراتيجية كإطار فكري يعبر عن الدولة، تعبر عن التنوع، تتعامل مع الظروف والأوضاع المحلية والخارجية، تعبر عن الوجدان كحلم وطني، مدعومة بإرادة سياسية وسند فكري ومعرفي وتقني قوي، مؤمّنة بوعي استراتيجي.
من هم المشاركون في التظاهرات:
في ديسمبر 2018، اندلعت التظاهرات الشعبية في مختلف أنحاء السودان بمشاركة واسعة جداً من قطاعات الشعب السوداني ومكوناته وإنتماءاته وتوجهاته وجهاته، تطالب بإسقاط نظام الإنقاذ، فالتيار الشبابي العريض كان هناك والمتصوفة كانوا هناك والسلفية واليسار والاتحاديين وكثير من الإسلاميين المختلفين مع الانقاذ وغيرهم كُثُر،..كان هناك الأقباط والرياضيين والفنانين وأبطال الشوارع وبائعي الدرداقات وستات الشاي، كان هناك أبناء كردفان والنيل الازرق والأبيض ودارفور والشمالية وشرق السودان ونهر النيل والجزيرة والخرطوم وسنار، الجميع كان هناك.. النقطة الجوهرية هنا هو أن الشارع العام خرج بكل انتماءاته ولا يدعي أحد من اليمين أو اليسار أو غيرهما بأن الشارع يمثله لوحده، أو يدعي أنه أخرج الشعب للشارع، فالشارع خرج من تلقاء نفسه ، وتقدم على مؤسساته.. وينبغي أن يعكس المشهد السياسي هذه الحقيقة المفصلية المهمة.
تصحيح المعادلة :
وفقاً للمفهوم الشامل للثورة الذي عبر عنه هذا المقال يمكن أن نلاحظ أن اختطاف الثورة تم في اتجاهين:
احتكار البعض للتظاهر وللشارع، رغماً عن المشاركة الشعبية الواسعة من الشعب السوداني ورغماً عن عدم وجود دليل بتفويض من المتظاهرين لأي جهة.
اختزال الثورة في التظاهر وإغفال أنواع النضال الأخرى.
عليه إذا كانت قاعدة الشرعية الانتقالية تقوم على شراكة العسكر مع ( الثوار ) فينبغي تصحيح المعادلة وفق مفهوم الثورة الشاملة، بما في ذلك كل من شارك في نضال المواكب المشار لهم أعلاه، ومن ثم عقد مؤتمر لشركاء الثورة لتحديد معالم الفترة الانتقالية بما في ذلك إنتاج الوثيقة الدستورية التي تؤطر لمهام الفترة الانتقالية ولأهداف الثورة.
وأن أي فعل لإدارة الفترة الانتقالية يقوم على اختزال الثورة لفئة معينة أولبعض المتظاهرين أو الأحزاب، سيعتبر سرقة للثورة وأن إسناده من قبل العسكريين سيكون أقرب للإنقلاب وليس الانحياز للثورة، وأن تجاوز الوساطة الدولية لهذا المفهوم يعني تجاوز للثورة ولإرادة الشعب السوداني.

أخيراً
أتمنى أن أرى ذلك اليوم الذي يدخل فيه كافة الثوار المناضلين من الخبراء والعلماء والمبدعين إلى ساحات السلطة، بفكرهم ومخترعاتهم وإبداعاتهم، وليس عبر المحاصصات أو البندقية..
وأتمنى أن أرى ذلك اليوم الذي يفرض فيه الشعب كلمته عبر منطق الصندوق ومنطق العلم ومنطق الاستفتاء، لا عبر إرهاب البندقية أو إبتزاز المال أوضغوط الخارج .
وأتمنى أن تنتهي المحاكمات التي نصبها البعض لإصدار الأحكام بالخيانة للوطن، فالوطنية والنجاح والنزاهة أو الخيانة والفشل والفساد، غير مرتبطة بالمكان والزمان أو الحزب المعين أو الجهة، فيمكن أن تكون صفة لبعض المعارضين كما يمكن أن تكون صفة لبعض الذين عملوا مع السلطة.. فلننصرف نحو ما ينفع الوطن.

• أستاذ التخطيط الاستراتيجي القومي
27/5/2022

اترك رد

error: Content is protected !!