ثُمر المداد / د. أحمد عبدالباقي

ملامح من مهددات الأمن المجتمعي السوداني: الصراع القبلي إنموذجا 2/1

د.احمد عبدالباقي

تميز مفهوم الأمن في الحرب الباردة في الفترة الممتدة من 1945-1989 بهیمنة نموذج مركزیة الدولة في تحلیل الشؤون الأمنیة كما اتسم بتركیز الاهتمام على التهدیدات ذات الطابع العسكري الموجه ضد بقاء الدولة وإستقلالها (الأمن القومي). وهذا هو الفهم السائد للأمن التقليدي طيلة تلك الحقبة أي أن منظور الأمن خلال تلك الفترة اعتمد في تحدیده على ثنائیة: الدولة كوحدة تحلیل رئیسیة وعلى العوامل العسكریة كمصدر لتهدید لأمن الدولة وبالتالي ساد بما يعرف ” بالأمننة” أي الأعتماد علي الحلول الأمنية.

بعد نهاية الحرب الباردة ومنذ بداية القرن الواحد والعشرين، تشكل عالم ما فوق القومية وعصر التكتلات الاقتصادية، وطغي عصر العولمة و أضحي العالم قرية كونية تنتفي فيها الحدود الإقليمية وتراجعت السيادة الإقليمية للدولة الوستفالية (مفهوم تاريخي لنظام قائم علي مبدأ سيادة الدول) لفائدة سيادة كونية افتراضية لا تعترف بالحدود الإقليمية، ولا بالسياسة الحمائية للمنتجات الوطنية. كما أن من أبرز سمات هذه الحقبة تنامي الحركات الانفصالية على أساس عرقي أو لغوي هدفها تقسيم الدول وتجزئتها، في المقابل يسير التوجه العالمي في الدول المتقدمة نحو خلق تكتلات سياسية واقتصادية كبرى بين دول وطنية، تكون قادرة على التصدي لتحديات العولمة والإرهاب والصراعات العرقية، تجمع بين العديد من القوميات والعرقيات واللغات مندمجة سياسيا واقتصاديا مُشكلة وحدة وطنية صلبة، كل تلك التغيرات أفرزت واقعا جديدا حديثا لمفهوم الأمن تبلور في عدد من الدرسات الأكاديمية التي أطرت لهذا المفهوم.

الأمن من منظور حديث

علي إثر التغيرات المذكورة أعلاه، تمت مراجعات أساسية لكل من مفهوم الأمن و طبيعة التهديدات الأمنية في ظل تراجع العامل العسكري أمام تصاعد العامل الاقتصادي كآلية لإخضاع الدول وظهرت تهديدات جديدة مختلفة الطبيعة عن التهديدات التقليدية، تميزت هذه التهديـدات بكونهـا غامضـة المعالم ،غير عسكرية،عابرة للحدود ومبهمة المصدر ولا يمكن التنبؤ بزمن ظهورهـا، كذلك تأثر مفهوم الأمن بظهور فواعل دولية جديدة كالمنظمات الدولية الحكومية/غير الحكومية، الأفراد، الشركات المتعددة الجنسيات، الجريمـة المنظمة وتلك العابرة للحدود، الإرهاب،الهجرة غير الشرعية والتغيرات المناخية (التلوث البيئي،الكـوارث الطبيعيـة، والاحتباس الحـراري الخ…)، تزايد حدة البطالة، المخدرات، العرقيات المشتركة بين الدول و الصراعات القبلية والعرقية داخل الدول و بين الحدود.

بناء علي تلك المعطيات الجديدة اهتمت ثلاث مدارس غربية رئيسية بدراسة الأمن بمفهومه حديث وتشمل تلك المدارس، مدرســة ویلــز، مدرسـة بـاریس ومدرســـة كوبنهـــاجن.

اشتهرت مدرسة كوبنهاجن من بين هذه المدارس ورائدها باري بوزان، ساهمت هذه المدرسة في توسيع و تعميق مضامين الأمن من خلال أعمال باري بوزان في كتابه Fear and States, People الذي نشر في عام 1983 ، سعى بوزان إلى توسيع مفهوم الأمن من منظور قطاعات أخرى غير عسكرية ترتبط مع بعضها البعض، ويمشمل ذلك القطاع السياسي ،القطاع الإقتصادي، القطاع البيئي، القطاع المجتمعي الذي هو موضوعنا في هذه المساحة وذلك لارتباطه المباشر بالصراع القبلي( خاصة في السودان) أو الصراع العرقي.

الأمن المجتمعي من منظور مدرسة كوبنهاجن

وسعت مدرسة كوبنهاجن من مفهوم التهديدات الأمنية خاصة الأمن المجتمعي و ارتباطه بالمعضلة الامنية و مفهوم الأمننة، وعليه اتسع مفهوم التهددات الأمنية عند هذه المدرسة ليشمل أمن العالم، أمن الدولة و أمن الفرد والربط بين هذه المكونات.

ناقشت المدرسة كذلك ارتباط الامن بقضايا الثقافة، والهویات الوطنیة، وعادات الدول و العرقيات داخل الدول وتلك العابرة للحدود أو العرقيات المشتركة بين الدول لذلك عرف بوزان الأمن المجتمعي بأنه: ” القدرة علي الإستمرارية ضمن تطورات مقبولة للأنماط التقلیدیة المتعلقة باللغة والثقافة والدین والعادات وأن الخطر على الأمن المجتمعي ینشأ عندما تشعر مجموعة – ما– أنها غیر آمنة من بطش السلطة الإقلیمیة أو السلطة المركزية، أو المجموعات التي تشاركها الإقلیم نفسه، و أطلق باري بوزان علي ذلك الخطر الأمني “المعضلة الأمنیة المجتمعیة” وربطها بمفهوم الأمننة.

المعضلة الامنية المجتمعية والأمننة

وفقا لمدرسة كوبنهاجن فإن المعضلة الأمنیة المجتمعية تحدث حینما تشعر مجموعة مجتمعیة ما أن قیمها الأساسیة أصبحت مهددة من طرف مجموعة مجتمعیة أخرى أو من مؤسسة الدولة التابعة لها في حد ذاتها، بحیث إذا حاول مجتمع ما التوجه إلى تعزیز الأمن المجتمعي الخاص به، فإن المجتمع أو المجتمعات الأخرى تكون لها ردة فعل إزا ذلك التعزيز وهذا يؤدي إلي نشوء معضلة أمنیة مجتمعية. ربما تقع المعضلة الأمنیة المجتمعیة أيضا لانعدام الثقة بین الجماعات والتي قد تؤدي إلى صدمات مجتمعیة ذات أشكال غیر عنیفة أو أشكال عنیفة مسلحة، وتأسيسا علي ذلك تصنف المعضلات الأمنیة إلى ثلاثة مستویات تحلیلیة:
بین الدول (دولاتي) المعضلة الأمنیة المجتمعیة تكون بین الجماعات المجتمعیة بین الدول أو دولة ودولة،
عابر لدول(عبر-دولاتي) أي المجموعة المجتمعیة تكون منتشرة بین الدول،
داخل الدول –(داخلي) أي أن المعضلة الأمنیة تكون بین الجماعات المجتمعیة داخل الدولة أو بین المجموعة المجتمعیة و الدولة وهو اكثر صور المعضلة الأمنیة انتشاراً خاصة في إفريقيا ومنها السودان التي تتمحور فيه حول الصراع القبلي في عدة مناطق منه.

مفهوم الأمننة

الأمننة مصطلح متداول في العلاقات الدولية، و يعني قيام الفاعلين في الدولة بعملية تحويل المواضيع أو المشاكل التي تحدث في الدولة إلى مسائل أمنية بمعنى آخر هي نسخة معقدة من التسييس تسمح بإستخدام معاني إستثنائية بإسم الأمن مع أن القضايا محل الأمن لا تمثل بالضرورة قضايا أساسية لبقاء الدولة، بل ربما تمثل قضايا متعلقة بمشكلة وجودية تمس الأفراد. كما هو الحال في الصراعات القبلية.

عملية تحويل المشاكل إلى قضايا أمنية من خلال إضفاء الطابع الأمني عليها تُفهم على أنها نتيجة لأعمال خطاب موجه للرأي العام ، أي عملية الاستخدام المتكرر لإظهار حدث ما على أنه تهديد وجودي، من خلال لغة خطابية موجهة للجمهور العام تقدم من خلالها هذه القضية على أنها تمس البقاء المادي أو المعنوي للدولة، و بالتالي تتطلب إجراءات استثنائية مستعجلة لتشريع الأفعال خارج العملية السياسية المعتادة. و يرى بوزان أن فواعل الأمننة الأكثر شيوعا قد يكونوا (قادة سياسيين، بيروقراطية، حكومات لوبيات، جماعات ضغط.

اللا أمننة

نقيض الأمننة بذلك بالمعني أعلاه هو “اللا أمننة”و التي تعني إنتقال القضايا المؤَمننة خارج حالة الطوارئ إلى عمليات المساومة الطبيعية للمجال السياسي و وربط ذلك بقضايا الاقتصاد، والقضايا العسكرية والتأثيرت البيئية، و المجتمع (أصحاب المصلحة)

يتواصل………

اترك رد

error: Content is protected !!