✍حسن فضل المولى
بمناسبة نفير المستشفى ، و افتتاح ( مركز غسيل الكلى ) بموطِنِي ( الكتياب ) ، والذي شرفه بالحضور ( الناظر ترك ) ، وبينما نحن جلوس في دار الزعيم ( مصطفى العمدة ) ، في انتظار وجبة الغداء ، إذ بأحد المرافقين للناظر يَعْبُر بي ثم يعود فنَتَنَاظرُ مليَّاً ..
حسن !!
المِليك !!
الجابك شنو يازول في بلدنا دي ؟
هو إنت من هِنا ؟
بالحيل ..
ياسلاااااااام ..
( كانت لنا أيام
في قلبي ذكراها
مازلت أطراها
ياليتنا عُدنا
أو عادت الأيام )
تلك الأيام ، التي كنت أواظب فيها على حضور جانب من ( مهرجان البحر الأحمر للسياحة و التسوق ) ، والذي كان مُهندسه ( الوزير الصادق المليك ) ..
حينها وقفت عن قرب على ( أيلا ) ، وأفعاله التي تسر الناظرين ..
فقد استحالت بورتسودان على يديه عروساً مَجْلوَّة ، تهاجر إليها أسراب الحِسان ، و يؤمها المُتَنَزِهون والمصطافون ، ويَفِد إليها طلاب
العَيْش الكريم وعشاق الحُسن المُقيم ..
أنشأ المشافي
وشجع على الإلتحاق بالتعليم
و فعَّل الخطط الاسكانية
وأقام المنتجعات للراحة والاستجمام
و أطلق حملات النظافة والتجميل
ودشن ( قناة البحر الأحمر ) التي ولدت بأسنانها
و رَصَف الطرقات وأضاءها
وازدانت الأحياء وهي تكتسي ( الإنترلوك ) ، و ( الإسفلت ) على مد البصر ، حتى أن أحد المسؤولين عن الخطة الأسكانية ، ذكر لنا أن واحداً من ( الأدروبات ) جاءة يطلب أرضاً سكنية ، فعندما أفاده أنها قد نفدت ، و لا توجد قطعه ، قال له غاضباً وساخراً : ( أرض مافي ، طيب ( زلط ) في ؟ ) ..
وكرّم إنسان الشرق وحاول جاهداً التقريب بين قبائله ما استطاع إلى ذلك سبيلا ..
لقد أنجز ما عن حصره أعجز ..
أنجز كثيراً مما شهِد ويشهد له به المُنْصِفون ، و مما سيبقى في ذاكرة الأجيال ..
و الله لا يضيع أجر من أحسن عملا
وبعد أن أراح الأجساد أقبل على النفوس وأشواقها ورغائبها ، فمهد ( الكورنيش ) وزانه ، حتى أصبح قبلة للأسر والزائرين ، ينعمون فيه بالدفء والإطمئنان ..
لايخشون متطفلٍ ، و لايهابون متسلط ، ولايقلقهم عزول ، ولا تخيفهم ظُلُمات ..
تجد من يحتسون القهوة ، ومن يلعبون
الورق ، ومن يتسامرون ، ومن يتغنون ويطربون ، وآخرون يَسْتَذْكِرون ، ويمشون ويركضون ..
والبعض يتخذ من مقعد ( الشاعر حسين بازرعة ) مزاراً ، حيث كان يخلو إلى نفسه ، لينظم أروع الأشعار ، التي تفيض بلواعج الحب والغرام ..
قصتنا
لا وحبك
أجمل أيامي
من أجل حبي
الوكر المهجور
القبلة السكرى
شجن ..
( لمتين يلازمك في هواك مر الشجن
ويطول في أيامك سهر ويطول عذاب
ياقلبي لو كانت محبتو بالتمن
يكفيك هدرت عمر حرقت عليه شباب
لكن هواه أكبر وما كان ليه تمن
والحسرة ما بتنفع وما بجدي العتاب
أحسن تخليه لليالي وللزمن
يمكن يحس ضميره ويهديه للصواب
لكني أخشى عليهو من غدر الليالي
أخشى الأماني تشيب وعشنا يبقى خالي
هو لسه في نضارة حسنو في عمر الدوالي
ماحصل فارق عيوني لحظة أو بارح خيالي
أغفرله ياحنين وجاوز من ظلم
ما أصلها الأيام مظالم
والعمر غمضة ثواني
واصبر على جرحك وان طال الألم
بي جراحنا بي أشواقنا بنضوي الزمان
أنا عارفو بكرة بعود وبي رعشة ندم
ننسى الحصل بيناتنا والسهر اللكان
تصبح حياتنا نغم عُشَنا يبتسم
وتعود مراكب ريدنا لي بر الأمان ) ..
ولقد كانت سعادتي غامرة وأنا أقنع ( الأستاذ عثمان حسين ) ، والذي لم يكن يرد لي طلباً ، بالسفر مع فريق ( قناة النيل الأزرق ) ، ليلقى رفيق دربه ( بازرعة ) ، بعد أكثر من عشرين عاماً ، وحرصاً مني على إتمام اللقاء ، ذهبت إليه ، واصطحبته من منزله إلى المطار ، بعربتي ، فكان ذلك اللقاء بين العملاقين ، في المكان ذاته ، الذي شهد ميلاد أروع وأبقى الأغنيات ، وهو برنامج ( أجمل أيامي ) الذي أنتجه ( الشفيع عبدالعزيز ) و قدمته ( سلمى سيد ) وأخرجه ( لؤي بابكر ) ..
وما كان لي أن أذكر ( الكورنيش ) دون أن آتي على ذِكْرَى ( بازرعة ) و ( عثمان حسين ) و هذا اللقاء الحاضر في وجداني ..
نعم لقد أصبح ( الكورنيش ) في عهد ( أيلا ) مُغتسلاً ومُرتكضاً ومُتنفساً ..
حكى لي ( الصادق المليك ) ، أنه كان يرافق ( أيلا ) ، و هما يسيران رَاجِليْن ليلاً في ( الكورنيش ) ، دون أن يشعر بهما أحدٌ ، فرأى ( أيلا ) شُرطياً يأخذ بِخِناقِ أحد الشباب ، والذي كان يجلس مع إحدى الفتيات ، فما كان من ( أيلا ) إلا أن أسرع نحوه ، وجذبه بعنف قائلا له :
( شوف شغلتك ، مالك ومالم ، نحن نورنا ( الكورنيش ) ده لو وقعت إبرة بتتشاف ، ونحن عايزين أي زول ياخد راحتو هنا ، بدل ما نشجع الناس يفتشوا الأماكن المُضَلِمة والمقطوعة ، و بعدين ما بتعرف البحصل شنو ) ..
كان أول عهدي ( بأيلا ) ، عندما نقل لي أحد الإخوة دعوته للحضور لبورتسودان ، للتفاكر معي حول رؤيته للمهرجان الثاني أو الثالث ، لا أذكر ، وما يمكن أن تقدمه لهم ( قناة النيل الأزرق ) من التبشير به ونقل فعالياته ..
و الذي يميز ( أيلا ) ، أنه يضعك في تفاصيل الحدث الذي يمسك هو بكل خيوطه ، ويجعلك أسير إحساسٍ بأنك أنت الفاعل ، ويتركك تسرح في إطار خطة أحكم جوانبها ..
كنت مُمتناً لما أحاطني به من اهتمام .. وامعاناً في الحفاوة اصطحبني معه لأشهد مباراة ، طرفها المريخ العاصمي ..
انطلقنا إلى ( الأستاد ) و( السارينا ) أمامنا ، وقبل أن تنتهي المباراة ، استأذنته بحجة أن هناك من ينتظرني خارج الأستاد ، هرَباً من مرافقة ( الوالي ) ، إذ أنني أحرص دائما على الإحتفاظ بمسافة من المسؤولين ..
و من خارج الأستاد إمتطيت ( ركشة ) ، مستمتعاً بالهواء العليل ، الذي يأتيك من كل أقطارها ، وصوت ( إنصاف مدني ) ينبعث من مسجلها ( السَنِيِن ) فيُسمِعُ كل العابرين ومن هم داخل البيوت ..
وبعد ذلك توالت زياراتي للوقوف على نقل فعاليات ( المهرجان ) من خلال ( القناة ) وذلك قبل انطلاقة ( قناة البحر الأحمر ) ، والتي بعدها أداروا لنا ظهرهم تماماً ، وهو ما آلمني وأحزنني ..
( والمهرجان ) حكاية ..
وآية ..
يتخذ من ( أستاد بورتسودان ) مكاناً رحيباً لفعالياته ، والتي تستمر لمدة أسبوعين ، يقضي فيها قاطنو ( بورتسودان ) وزائروها أجمل الأوقات وأعذبها ، وهم يستمعون إلى كبار المطربين الذين ، أصبحوا يتسابقون للمشاركة فيه ، والذين كان ( الصادق المليك ) ، كثيرا مايأتيني مبكراً بمكتبي ويُشرِكني في اختيارهم ، هذا إلى جانب قمم الشرق ، ( سيدي دوشكا ، و ( محمد البدري ) ، و (فرقة السماكة ) ،
وكثيرون ..
وتجد الكل يتخذ مكانه هناك ..
و ( أيلا ) عندما تراه( يقدل ) ، وهو يُقبل على الجميع بابتسامة عريضة ، لا تملك إلا أن تقول ، هاهو الشرق قد أتى يجرجر أزياله ، و يُعلن عن أمجاده ..
ويعلو الهتاف ..
( أيلا ) حديد
( أيلا ) هديد ..
إن ( المهرجان ) سلسلة من ( الليالي ) المِلاح ، التي تُسفر فيها بورتسودان عن وجهها ، وتكشف عن ساقيها ، وتُخرِج زينتها ، فترى عجبا من أشكال الجمال وألوانه ..
ترى جمالا يستهويك
وجمالاً يُنعشك
وجمالاً يُسكرك
وجمالاً تجن به جنونا
وكنت أرى بعض صحابي ، يهيمون على وجوههم في ( الأستاد ) ، تستخفهم كل ( جَدْعَةُ ) توب ، والتفاتة جيد ، وافترار ثغرٍ ..
وأذكر تلك التي أقبلت تتهادى قاصدة ( محمد عبدالقادر ) بقولها : ( بعد الطبع مُش !!) ، الأمر الذي أثار غيرة وحفيظة وانبهار ( عماد حسين ) فجعل يردد في هِياج : ( قبل الطبع وبعد الطبع ) ، وكاد أن يقول : ( وأحب الطبع ذاتو ) ..
وآخر نسخة أحضرها من ( المهرجان ) ،
و بعد أن أطربنا ( محمد الأمين ) بأجمل الأغنيات ، اصطحبنا ( المليك ) ، وتحلقنا حول صحون الفول ( المُصلَح ) ، ومن هناك إلى ( الكورنيش ) وسهرنا حتى استبان الخيط الأبيض من الأسود ..
وكان حضوراً ( عماد حسين ) و ( هيثم كابو ) و ( أفراح عصام ) التي تُجيد الحديث والتعبير عن أفكارها ومشاعرها ، و كان هناك ( أبو حباب ) و ( أحمد المك ) و آخرون و أخريات ، حيث استمعنا إلى محاضرة قيمة من عماد حسين عن مضار ( الخيانة الزوجية ) ، وهو حديث نال استحسان الجميع ..
ونغادر ..
على أمل ..
( إمتى أرجع ( للبورت ) واعودا
وأشوف نعيم دنيتي وسعودا
إمتى تلمع بروق رعودا
حظوظي تنجز لي وعودا
روحي ضاعت في النار قعودا
لي هون ياربي عودا ) ..
لم يكن ( أيلا ) ، وهو يختار ( للمهرجان ) توقيتاً يصادف أروع الأيام طقساً ، يهدف من ورائه ، إلى مجرد الترويح عن الأنفس وغمرها بالبهجة ..
بل كان يتخذ منه قاعدة للترويج عن الولاية ، بكل ثرائها وجمالها وتنوعها ..
وقد كان ..
إذ تحقق له ما أراد ..
فقد تضاعفت رحلات الطيران ، وقل أن تجد لك مقعداً خالياً في البصات التي تكاثرت كما لم تكن من قبل ، وأرتال المركبات الخاصة لا تكاد تنقطع ، منها وإليها ..
و ازدحمت الفنادق و ( اللكوندات ) والعمائر والطرقات ..
ونشطت حركة البيع والشراء ..
وعمرت ( السِقالة ) بآكلي الأسماك ومحبيها ..
وازداد عدد الغوَّاصون ، والغوّاصات ..
والذين يقصدون السعودية بحراً أو يعودون منها ، أصبحوا يجدون فيها ( جَمَةً ) من وعثاء السفر ..
وترى ( العِرسان ) ، مثنى مثنى، يتناجون على الشط ، و يأخذون قسطاً من الراحة ، ثم يعودون إلى ( الملعب ) وهم أكثر ( لياقة ) ..
و راس السنة أصبح أحلى في ( بورتسودان ) للأسر و المعارف والأصدقاء والحِبان ..
و الكل يغني مع ( حيدر بورتسودان ) ..
( عروس البحر ياحورية
يابورتسودان يا حِنِيِّة
من قلبي التايه في حُبِك
أهدي سلامي وألف تحية ) ..
والله أياااام يا ( الصادق المليك ) قلَّ
أن يجود الزمان بمثلها ..
و ( لمحمد طاهر أيلا ) ألف سلام ، متمنياً أن يُطل فجرٌ على بلادي ، يكون التكليف فيه بالعطاء لا الانتماء ..
والسلام ..
أم درمان ..
٣ أبريل ٢٠٢١