كل عام نرذل بسبب السيول والفيضانات في فصل الخريف و تزهق نفوس برئية و تفقد كثير من الأسر المأوي و تقع خسائر اقتصادية تزيد طينة تدهور الأوضاع المعيشية للناس بِلة و تفاجأ الحكومة السودانية بذلك، كحال من يقول أن شهر رمضان قد فَاجَأَهُ . مؤسفا جدا أن تتكرر المأساة و أكثر إيلاما أن تتفاجأ الحكومات السودانية المتعاقبة بالخريف وبالتالي لا تستعد لدرء آثاره مع العلم أن السودان ظل يشهد الفيضانات والسيول طوال تاريخه، ويعد فيضان عام 1946 وفيضان 1988 الأشهر في تاريخه ، وراح ضحيته العشرات، هذا وتعد سيول وفيضانات عام 2020 هي الأعلى في الخسائر البشرية والمادية، وراح ضحيتها أكثر من مائة قتيل. عادة ما تُعزي الفيضانات إلي الارتفاع المفاجئ في منسوب المياه في نهر النيل، لكن في الآونة الأخيرة تسببت الأمطار المحلية الغزيرة في سيول ضخمة، بجانب معدلات هطول عالية وغير متوقعة، وهو ما تواجهه البلاد هذه الأيام.
تنقل وسائل الإعلام المحلية والعالمية هذه الأيام صور مؤلمة لآثار السيول والفيضانات لهذا العام، نشرت صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر يوم السبت الموافق 20 أغسطس 2022م أن حصيلة ضحايا الأمطار والسيول ارتفع إلى 79 قتيلاً و 30 مصاباً، فضلاً عن انهيار قرابة 40 ألف منزل بشكل كلي أو جزئي، وتشريد قرابة 150 ألف شخص. مشيرة إلي تحذير وحدة الإنذار المبكر من احتمالات تواصل هطول أمطار متوسطة إلى غزيرة في عدد من مناطق البلاد الأيام المقبلة. كما أن مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية “أوتشا” أبان بأن ولاية وسط دارفور هي الولاية الأكثر تضرراً، تليها ولاية جنوب دارفور، وولاية نهر النيل، وولاية غرب دارفور، و ولاية النيل الأبيض، كذلك تأثرت ولاية الجزيرة، خاصة محلية المناقل و ولايات كسلا، الخرطوم، القضارف، سنار، و النيل الأزرق، مما يزيد من احتمالات تفاقم الكارثة الإنسانية التي تشهدها البلاد خاصة ازدياد الأوضاع البئية سوءا و انتشار الأمراض والأوبئة خاصة تلك التي تنتشر بالماء و مخاطر التعرض للهوام مثل العقارب و الثعابين.
تتكرر هذه المآسي كل عام ولا بواكي للشعب المسكين الذي يعاني في صمت و لا قِبل له بمواجهة تلك الكوارث، و كالعادة تفتقر الحكومة للاستعدادات المبكرة للتعامل مع الطوارئ و يبدو أنه ليس لديها خطة مسبقة شاملة يمكن تحديثها كل عام و تتصف بالمرونه لمواجهة أي أخطار تنجم عن الخريف، كل الذي يحدث في كل عام في فصل الخريف أن تعود حليمة لقديمها، حيث يقتصر دور الحكومة علي زيارة المسؤولين للمناطق المنكوبة والخوض في الوحل ومياه الأمطار و بث ذلك في وسائل الإعلام ومن ثم إصدار قرارات متواضعة علي نحو وجه سعادته أو تحركت قافلة الخ.
في ظل هذه الظروف هنالك ضرورة ملحة أن تعلن الحكومة حالة الطوارئ و التعبئة العامة للاستجابة لصراخات المنكوبين وأناتِهم و إغاثتِهم، لابد أن تسخر الدولة كل إمكانيات القوات المسلحة والشرطة و بالتعاون مع الدفاع المدني لإنقاذ ما يمكن إنقاذه و تشجيع كل فئات المجتمع للمشاركة في ذلك لأن الضرر متعد وممتد وسيصب كل قطاعات المجتمع ويؤثر علي الأوضاع الاقتصادية للسودان ككل بتأثر مناطق الانتاج والنشاط الاقتصادي و ويزداد سوء الوضع الاقتصادي والمعيشي المزري لمعظم قطاعات الشعب.
لابد أن تتحرك الحكومة في شكل فريق عمل يتابع التطورات عن كثب وبالتالي التحرك وفقا للمعطيات وليس الاستجابة لكل منطقة متأثرة علي حداها. الأمر الأهم من ذلك لابد من إنشاء جهاز حكومي ثابت مهمته الإضطلاع بمعالجة الكوراث المتكررة في البلاد وليس في موسم الخريف فقط بل التعاطي مع كل حالات الطورائ التي يتعرض لها المجتمع بما في ذلك النزاعات القبلية والمجاعة وحوادث السير والمرور الخ..
النفق الذكي في ماليزيا لدرء الفيضانات نموذج للتفكير خارج إطار المألوف
لابد للسودان من الأخذ بالتفكير خارج إطار المألوف لوضع خطة لدرء آثار الفيضانات والسيول علي المدي الطويل ، كل دول العالم تضع خططا لذلك، مثلا في ماليزيا كانت العاصمة كوالالمبور تتعرض للفيضانات بصورة متكررة أثناء هطول الأمطار الإستوائية بصورة غزيرةـ، رغم وجود البني التحتية الممتازة لتصريف مياه الفيضانات إلا أن الحكومة قضت علي تكرار تلك الظاهرة بصورة جذرية عن طريق إنشاء بما يُعرف بالنفق الذكي SMART TUNNEL الذي استغرق العمل فيه أربعة أعوام (2003-2007)، يبلغ طول النفق 9،7 كيلو وقطره 13،2 متر ، هو الأطول لتصريف المياه في ماليزيا والثاني في آسيا وبلغت تكلفته حوالي 514 مليون دولار دُفعت مشاركة (بنسب مئوية) بين القطاع الخاص والحكومة الماليزية أو ما يعرف بنظام الشراكة بين القطاعين العام و الخاص أو ما يعرف بـ(PPPS).
الشراكة مع القطاعين العام و الخاص تستند على ترتيبات تعاقدية بين واحد أو أكثر من الجهات الحكومية، وإحدى شركات القطاع الخاص في مشروعات معينة، يتم بمقتضاها قيام الشريك الخاص بإمداد الحكومة بالأصول والخدمات، والتي تقدم تقليديا من القطاع العام، بصورة مباشرة. وتشمل هذه الترتيبات الصور المبسطة للتعاقد الخارجي، أو قد تمتد لتشمل نقل أو مشاركة الإدارة، أو عملية صنع القرار، وبحيث يكون للقطاع الخاص دوراً أكبر في تخطيط، وتمويل، وتصميم، وبناء وتشغيل، وصيانة الخدمات العامة خاصة البني التحيتة الكبيرة.
كيف يعمل النفق الذكي
يعمل النفق على تصريف مياه الأمطار في حالة تجاوزها نسبة معينة بحيث يمنع تجمع المياه في المدينة ويقوم بتوزيعها للمنافذ في وقت قياسي. يتكون النفق من ثلاثة طوابق، يستخدم الطابق السفلي لتصريف المياه إذا ماكان منسوب هطول الأمطار خفيف أو متوسط ويُستخدم الطابقين الآخرين لفك الإختناق المروري للعاصمة، المرور عبر النفق يجنب الازدحام المروري خاصة في أوقات الذروة، وفي أوقات الأمطار الغزيرة يغلق النفق أمام حركة المرور تماما وتستخدم الطوابق الثلاثة لتصريف مياه الفيضانات ثم يفتح مرة ثانية أمام حركة المرور.
منحت الشركة المُشاركة في تشييد النفق فترة عطاء لمدة أربعين عاما لإستراجع مساهمتها وأرباحها من تحصيل رسوم عبور النفق، تبلغ رسوم العبور حوالي 55 سنت من الدولار الأمريكي للمرة الواحدة لكل سيارة تعبر خلال النفق، بلغ عدد السيارات التي تمر من خلاله يوميا حوالي 33 ألف سيارة تبلغ رسوم عبورها حوالي 540 ألف دولار شهريا. لكل أن تتخيل العوائد المالية من هذه الرسوم، و حسب التقرير الحكومي فإن النفق وفر لماليزيا حولي 27 مليون دولار كانت تصرف للتعاطي مع آثار الفيضانات المتوقعة في السابق.
نحتاج في بلادنا للإستفادة من مثل هذه التجارب من حيث التفكير خارج نطاق المألوف و التخطيط المستقبلي للبني التحتية بصورة عامة و مشاريع تصريف مياه الخريف بصورة خاصة ويكون ذلك عن طريق الاستفادة من الشراكة مع القطاعين العام و الخاص (PPPS) وهذا هو أسرع وأقصر الطرق لتحقيق ذلك في السودان.