بقلم : عبد الله حميدة
يوافق الأحد الرابع من فبراير الجاري ٢٠٢٤، الذكري الخامسة لرحيل العلامة المفكر والخبير التربوي والشاعر الفحل والفنان التشكيلي والوزير المعلم والسفير المحنًك عاشق الوطن، محمد خير عثمان.
وتأتي هذه الذكري والسودان يواجه اخطر مهددات وجوده : ارضا وشعبا وتاريخا بسبب العدوان البربري الذي طال كل شيء فشرد السكان وقتل الأبرياء واغتصب النساء واستولي علي الممتلكات العامة والخاصة ونهب البنوك ودمر البني التحتية.
إن عشق محمد خير عثمان لتراب (وطنه) وماعرف عنه من اعتزاز بشعبه وبقيمه الثقافية وبتراثه الحضاري ، هو المحفز الأكبر الذي استدعي أن نحي ذكراه العزيزة .
غير أن الأحداث الجارية الآن في طول البلاد وعرضها قد حتَمت أن نستخلص من سيرة الرجل ما يعيننا علي تجاوز المحنة ، إذ أن أبلغ الكلم ماتجود به المناسبة واوقع الذكر ما لمس الواقع ووافق الحدث الماثل. ولأن معارف و تجارب الراحل الكريم في الحياة، بحر لا ساحل له ، فلقد رأيت أن انتقي منها ما وقفت عليه من قبيل عشقه للسودان (وطنا ) وملاذا بكل ما توحي به الكلمة من معني ومبني .
تمثل عشق محمد خير للوطن في نماذج وجدانية وعقلانية وفكرية وابداعية مدهشة سجلها بقلمه في سفره النفيس: (المدخل الي بخت الرضا واوراق اخري) وعبر عن ذلك العشق بمختلف ضروب الكتابة نثرا وشعرا ورسما. إن الإحاطة بكل تلك النماذج الفريدة تحتاج إلي جهد جهيد ووقت مديد لايتسع له مقالنا هذا وسنكتفي بامثلة لاتخل بشمول المغزي وجماع المعني عسي ان ندرك ما يغني عن العجلة والاستسهال.
يمكننا أن نصنَف تلك النماذج في اربع لوحات متجانسة :
اللوحة الاولي :
ترصد الخلجات الذاتية المباشرة للراحل الكريم في عشق الوطن وهذه تتمثل في وجده الخالص بالسودان الذي لا يعادله وجد اخر .
فقد اتجه وجدانه كله – ابان شبابه الباكر – إلي ما كان يستهويه من اناشيد الحركة الوطنيه” صه ياكنار” و”صرخة روَت دمي” و “قسما بالمؤتمر” وفي هذا الخضم الزاخر بالروح الوطنية الدفاقة ، كان صاحبنا يعمل بعقد مؤقت مدرسا في مدرسة المؤتمر الأهلية الأولية ولم يكن راضيا عن شروط خدمته مما دفعه للتفكير في الهجرة عن الوطن. غير ان مناسبة (يوم الآباء) بالمدرسة اوحت اليه بفكرة المساهمة في الحفل بنشيد يختارهو كلماته ويسعي الي تلحينه ويقوم التلاميذ بأدائه. يقول : (اهتديت إلي ديوان الشاعر احمد شوقي، باحثا فيه عن قصيدة تكون مناسبة…فعثرت علي قصيدة “الوطن” فاسرتني ببساطتها وشعرها وموضوعها). وسخَر الله له عمه (عبد الله الخليفة طه )، ناظر (مدرسة القضارف الاولية الحكومية ) الذي قام بتلحينها، وبعد ان انشدها التلاميذ في الحفل، ذاعت لاحقا في كافة المدارس الاولية بالسودان.
وفي هذا الصدد يقول:
(واذكر انني عندما استمعت إلي بيت من القصيدة في نهاية الأنشودة:
ياريح انت ابن السبيل
ما عرفت ما السكن
هب جنة الخلد اليمن
لا شيء يعدل الوطن ).
هناك قررت إسقاط فكرة الهجرة عن ذهني حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا.فيا لسحر الوطن الذي لا يعدله شيء..اي شيء ، في الوجدان المرهف الأصيل.وعندما التحق بكلية الخرطوم الجامعية عقب تجربة التدريس ، حمل معه – وهو الشاب الناضج – بذرة حب الوطن، فكان مثالا مجسدا يسير علي قدمين. وقد ألمح رفيقه في الكلية، منصور خالد، إلي هذا المثال قائلا: إن رفاقه في الكلية الجامعية، كانو يطلقون عليه “الشايقي” لا لأنه كان يعتز بالأصل القبلي ، بل لأنه كان يحملعلي جانبي وجهه شلوخ الشايقية ذات الخطوط الافقية. قال منصور: (بيد ان ذلك الشايقي – الذي اعرف حق المعرفة – لم ينكمش ابدا في قبيل معين بل كان حواء لكل ما في اهل السودان من نبل وفضل .(شهادة من رأي لا شهادة من سمع!بعدها بسنوات، يسافر صاحبنا مبتعثا إلي لندن (١٩٥٧) ، فتغالبه حدة الحنين إلي وطن ” الدعاش” والأهل والعشيرة ، فيعبَرعن حاله بشعر رقيق من نظمه هو ذاته :
يا جيرة السرف النائي مزاركمَ
طبتم وفي النفس من شوق لكم غللْ
اليوم هيجت لكم ذكري تؤججها
شمس الربيع انمحي من وجهها البللْ
هل نسمة من دعاش استعيد بها
سكون نفس ابت ترضي وتمتثل
زهر الربيع تبدي في اصائله
فلا الازاهر طابت لي ولا الاصل
اري الجمال فلا نفسي تهش له
إذا تعرَي ولا بالروح يتصل
عشيرتي، إن نات داري فلي امل
لقربكمْ حيث يحدونا غدا اجل
هذه أمثلة من بين اخري عديدة مما كان يعتلج في جوانح الراحل الهمام من حب خالص للوطن ، مبثوثة علي صفحات مؤلَفه الفريد تنتظر من يريد ان يستزيد.
اللوحة الثانية :
تتمثل في تصوير هاجس الاغتراب واثر البعد عن الوطن في وجدان محمد خير،باعتباره مؤشرا إلي انتماء الناس للأرض التي ترعرعوا فيها.وفي كتابه الذي أشرنا إليه آنفا يتناول هذه القضيه بحثا عن علاج لها، كحالة ضاغطة لا ينبغي الاستسلام لاغراءاتها الطارئة. واليك طائفة من أقواله – انطلاقا من تجربته الذاتية في هذا الشأن:(الاغتراب واقع غير طبيعي في حياة الانسان لانه يحاول اقثلاعه من البيئة الطبيعية إلي بيئة اخري غير مألوفة لديه). (في رأيي ان الاغتراب “حالة محايدة ” في اي بقعة من ارض الله،وان علي الذي يمارسه طوعا او كرها ان يجعل منه الحالة التي تقترب من مُثله العليا وِلما يرجوه لنفسه وذويه وبلاده).(في حالة الاغتراب بالذات، يكون الناس اكثر حرصا علي الالتزام بعاداتهم واحترامها، وإدانة المخالفين والشواذ. إن نوعية هذا التعايش وحدوده ودرجة الرضا العام به هو الذي يسمونه هذه الايام ب” الهوية”). (إن آباء وأمهات الاغتراب اولي بان يسهلوا علي ابنائهم وبناتهم معاناة الانتقال عبر سنوات نموهم ، اذا استطاعوا ان يجعلوا من أسرهم نماذج وأنماط من البيئات الاصلية التي نشاوا فيها.(( إن الإصرار علي النموذج الوطني لا ينبغي ولا يتناقض بالضرورة مع تنمية الاحتكاك بالآخر، وتبادل الخبرات ومهارات ولغة التفاهم،وثقافة الآخرين .(وهكذا ، نري ان فلسفة التعاطي مع قضية مفارقة الوطن عند محمد خير، توازن بين ثبات الحب للوطن، والمتغير الذي يفرضه الاغتراب علي ذلك الوطن…انه يبتغي بين ذلك سبيلا.
اللوحة الثالثة :
تستعرض صحبة “الخير”.الخيَرة التي اسرته برمزيتها الوطنية ورسخت في دواخله إبداعاتها في بناء الوطن .فالصحبة رباط روحي له تاثيره المباشر علي سلوك الانسان واشواقه ومزاجه .فالأرواح جند مجندة، كما قال الصادق المصدوق عليه افضل السلام وازكي التسليم. والقْرناء يقتدي بعضهم ببعض ويسند بعضهم بعضا ولهذا يجد الانسان نفسه فيهم:عن المرء لاتسال وسلعن قرينه،فكل قرين بالمقارن يقتدي.
تكونت صحبة محمد خير من مختلف الأجيال. فمنهم من تتلمذ علي يديه ومنهم من تتلمذ عليهم ومنهم انداده ورفاق صباه. وهو يحفظ لكل واحد منهم مكانته في منظومة الوطن.ويتعذر علي المرءان يورد قائمة تلك الصحبة لطولها لكن إيراد بعض اسماء منها – علي سبيل المثال لا الحصر -وما قاله محمد خير فيها ، قد يوفي بالمطلوب :قال عن الطيب صالح : (كان التزامه بقضية الأدب، هو عين التزامه بقضية “الوطن”، الوطن في معناه الكامل وفي معناه المجرد).واعتبر منصور خالد، (شخصية فذة تجاوزت حيويتها حدود وطنها). .كما اعتبر كتابه “أهوال الحرب طموحات السلام”، ( قاموسا واضحا فاضحا عن كيف يخطيء الناس في حق الوطن). ويقول عن عمه جعفر الخليفة طه ، الذي بني ” كشكا” يزاول فيه بيع تذاكر البص السريع مابين القضارف والخرطوم : (إن ذلك الكشك كان مقرا لتوحيد النقائض والمتخاصمين ليتصالحوا وليتفقوا وليتبادلوا ذلك الإحساس السوداني الغريزي العجيب لشيء واحد مشترك).
ويري في شخص عبد اللطيف عبد الرحمن معلَما نموذجيا لكونه يدعو للاستمساك بوحدة شمال السودان مع جنوبه وينبذ الانفصال ، فيقول :(لعل اكثر ما يذكر عنه مقطوعاته الشعرية التي تعبر عن حس مبكر بالالتفات للوحدة الوطنية ومنها ومن اكثرها انتشارا نشيده الرائع :
انت سوداني وسوداني انا
ضمنا الوادي فمن يفصلنا
نحن روحان حللنا بدنا
“منقو” قل لا عاش من يفصلنا).
اللوحة الرابعة الخاتمة :
تشف عن مدي انفعاله بقضايا الوطن العربي الكبير وتعبيره عن ذلك الانفعال بالريشة والقلم.فقد خط بقلمه الرشيق شعرا جميلا بالعربية والإنجليزية، اثبتنا منه سلفا قصيدته في “الحنين إلي الوطن”، كما خط بريشة الفنان المبدع “اسكتشات : لوجوه معروفة علي المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.
اخترت من شعره الذي يعبر عن انتمائه للوطن العربي الكبير قصيدة عن القضية الفلسطينية، وقد نظمها اثناء مداولات مجلس الامن حول تلك القضية.
ومن عجب انه كان حينها في التاسعة عشرة من عمره. قال :ذلك اليوم ذلنا يا فلسطينولا نرضي لك الدهر ذلاما بك اليوم ما بنا يا فلسطينولكننا نعدك اوليأجمعوا أمرهم علي الكيد للعدلوسموا اجتماعهم ذاك عدلاواخترت من اسكتشاته صورتين :
الاولي لياسر عرفات والآخري للمفكر والأكاديمي والشاعرالسوري علي احمد سعيد الشهير باسم”ادونيس”، اما ياسر عرفات، فقد كان رمزا للنضال الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني الامبريالي، وهو مناضل من أجل وطن هو وطن الأوطان بالنسبة للعرب والمسلمين في كل وطن.واما ورود صورة أدونيس ضمن الاسكتشات،فيحتاج الي تفسير.
فلا شك عندي إن أدونيس كانت له مكانة خاصة عند محمد خير. فادونيس كان صاحب آراء وأفكار ومقالات عميقة لعلها وجدت هوي في نفس محمد خير فصوَر صاحبها تقديرا وإعجابا به .
ومن بين ما لفت اهتمام محمد خير في تلك الآراء والافكار – في ظني – عبارات ( الوطنية ) التي تضمنتها . فادونيس هو القائل :
( أيها الوطن ارفع سقفك كي استطيع تحته ان ارفع راسي).
وهو القائل:
( ما اكثر الأوطان التي يبدأ فيها سجن المواطنين بالنشيد الوطني ).
وهو القائل:
( لا انحني إلا لأحضن موطني).
ألا تشي هذه المقولات البليغة بالسر الكامن وراء وجود ( اسكتش) لادونيس، ضمن مجموعة اسكتشات محمد خير؟
وبعد.
رحم الله عاشق الوطن وفقيد الوطنية الذي جاء يوم شكره في ظروف تدعونا الي التأسي بما خَلف من تراث نبيل، والأسي علي حالنا الماثل الذي كم حذرنا هو من الوقوع فيه. رحمك الله أيها العالم الجليل، ولا زال في النفس الكثير الكثير من : حتى.