الرأي

شرق الفرات.. مواجهة أخرى أم قواعد جديدة للاشتباك الإيراني-الأمريكي؟

عريب الرنتاوي
الحلقة الأخيرة (الراهنة) في مسلسل التصعيد شرقي الفرات، لا تنتمي إلى مسلسل “المناوشات” المعتادة بين القوات الأمريكية والمليشيات المسلحة، المحسوبة في عمومها على إيران..
سياسياً وميدانياً، ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن وراء الأكمة قرارا سياسيا، إيرانيا أساساً، برفع منسوب المواجهة مع الوجود العسكري الأمريكي في تلك المنطقة، وربما لهذا السبب، فضلاً عن سقوط قتيل وستة جرحى أمريكيين، حظيت المواجهة الأخيرة، باهتمام سياسي وإعلامي خاص في واشنطن.
هذه المرة، عدة موجات من الصواريخ استهدفت القواعد الأمريكية، بالذات في حقلي العُمَر وكونيكو النفطيين، صاحبها هجوم بطائرة مسيّرة، ألحق خسائر بشرية في صفوف الأمريكيين، الذين وجدوا أنفسهم في أمس الحاجة لشنّ سلسلة من الضربات الجوية، تخطت الحسكة لتطاول الميادين والبوكمال، ملحقة إصابات مباشرة بالجماعات المسلحة، ومتسببة في قتل 19 من أفراد المليشيات والجنود السوريين ومدنيين متعاقدين، وجرح عدد أكبر منهم.. بايدن الذي يزور كندا، قال إن بلاده لا تسعى لصراع مع إيران، ولكنها مصممة على الدفاع عن جنودها.
إيران على ما يبدو، تستشعر قدراً أعلى من “فائض القوة”، لا بسبب التطور المتسارع في حلفها الاستراتيجي مع روسيا والصين فحسب، بل وكنتيجة لانفتاحها المتسارع أيضاً، على دول الخليج العربية، وبالذات بعد إعلان بكين الثلاثي، الأمر الذي ربما يكون قد أوحى لقيادتها بأن الوقت قد حان لإخراج القوات الأمريكية من سوريا، ضمن استراتيجية تستهدف إخراجها من “جنوب غرب آسيا”، وبالذات بعد الهجوم الأمريكي الذي استهدف أحد أكبر رموزها، قاسم سليماني، في يناير 2020.
وأحسب أن إيران ليست معنية بدورها بفتح جبهة صراع مفتوح مع الولايات المتحدة، لكنها مع ذلك، ترى أن “تصعيداً مضبوطاً” قد يمكّنها من ضرب عصفورين بحجر واحد: الأول إعادة مسار فيينا للمفاوضات حول برنامجها النووي إلى سكته بعد خروجه عنها، كونه بوابتها للخروج من نفق العقوبات الاقتصادية المظلم.. والثاني تسخين الجدل داخل أروقة القرار الأمريكي بشأن مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، لا سيما أن هذا الوجود لا يتمتع بقيمة استراتيجية للولايات المتحدة، لكنه بالنسبة لإيران، عنصر تهديد دائم لممرها الاستراتيجي الممتد من قزوين إلى شرق المتوسط…إيران لم تتلق بارتياح قرار الكونغرس قبل بضعة أسابيع، بالإبقاء على هذه القوات في سوريا.
وهي تُجري حساباتها المعقدة بهذا الشأن، لا شك أن طهران تأخذ بالحسبان أن واشنطن الغارقة في حربين كونيتين، واحدة ضد روسيا في أوكرانيا وثانية ضد الصين حول تايوان، لن تكون بوارد شنّ حرب ثالثة ضدها، وأن إدارة بايدن لا تمتلك في الشرق الأوسط الكبير برمته، سوى استراتيجية إطفاء الحرائق ومنع الانفجارات التي تعكّر عليها صفو حربها لاستنقاذ هيمنتها على “نظام القطب الواحد”.
ولا شك أن طهران تتابع عن كثب، وربما بقدر أعلى من الاهتمام، تطورات الداخل الإسرائيلي، إن على ساحة الصراع الداخلي المحتدم وغير المسبوق، بين أجنحة الطبقة السياسية – الأمنية ومراكزها، أو على جبهة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وهي تدرك أن “غريمتها الأولى”، بوضعها الحالي، ربما تكون عاجزة عن القيام بمغامرة عسكرية ضد مواقعها ومنشآتها النووية، بخلاف ما يُشاع عن احتمال قيام نتنياهو بتصدير أزمته الداخلية بافتعال مواجهة مع إيران.
وثمة عامل آخر، مستجد، لا يقل أهمية في الحسابات الإيرانية، ويتعلق بموقف تركيا وموقعها من هذا النزاع المتصاعد على مقربة من حدودها، لا سيما أن أنقرة لم تُخف يوماً رغبتها في خروج القوات الأمريكية، المظلة الواقية لخصومها الأكراد، من شمالي شرق سوريا، وفي ضوء الرغبة التركية المستجدة للمصالحة مع دمشق، وبدء عمل “الآلية الرباعية” للتقارب التركي – السوري، برعاية روسية..
ورغم أنه من غير الواضح حتى الآن، كيف سينعكس التقارب السوري – التركي على مستقبل الوجود الأمريكي في سوريا، إلا أن المؤكد أن ريحاً جديدة بدأت تهب على الصراع الإيراني – الأمريكي فيها وحولها، وغالباً بغير ما تشتهي سفن واشنطن.

اترك رد

error: Content is protected !!