أهل الطريق

( عـــــــامُ الحُـــــزن )

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على من احتفى وأقسم بعمره -وميلاده- البصيرُ السميع ، ومَن تفاخر بمولده شهرُ ربيع حبيبي وطبيبي ، وسيدي وسندي ، وقائدي وقدوتي .. محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله عدد كمال الله وكما يليق بكماله . السلام على قلبك الشريف ، السلام على مقامك المُنيف .. وأنت يا سيدي حاضرٌ وإلينا ناظر . وبعد .. فقد أمرنا ربُك الجليل بما أنزله عليك من آي التنزيل بالفرح بك فقال :

(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) .

ثم إنكم -سيدي- قد تفضلتم علينا بسنة احتفالكم بميلادكم صياما ، وسار على ذلك الصحابة والصالحون ذكراً وشكراً وبذلاً وقياما .. فأجمعت الأمة على مشروعية الاحتفال بكم ،بل وجعله المحبون لجنابكم الكريم واجب محبة لكم ، ولم يشذّ عن ذلك الإجماع والاتباع ، إلا شذاذا لم يتشرفوا بالاجتماع بحضرة الأمين المطاع .

سيدي حبيب الله ..

ها قد عادت عوائدُ عِيدك ، بغير ما اعتدناه من عادات الفرح برحمتك ومزيـدِك ..فقد غدت أفراحنا أتراحا ، ولم تعد أيامُنا مِلاحا ، وقد تَغشّت أمتَك ظُلَمٌ وظلامات ، وتفشّت فيها نزاعاتٌ وخلافات ، وأقبلت عليهم بحوافرها أيامٌ نحسات ، وبأظافرها شهورٌ صعيبات ، فما أبقت غير الغي ، وما تركت إلا العي ، وما أشهدت -بفعالهم- إلا البغي .

سيدي وحبيبي ..

إن أحبابك في -السودان- يا سيد ولد عدنان ، يمر عليهم شهرُ الفرح بك وهم ما زالوا على ما كانوا عليه طوال أشهر عجاف ، بفعال نفوس ضعاف .. وهم ما بين قتيل وذبيح ، ومعذب يصيح ، ما بين قوارير أوصيت بهن مغتصبات ، ونساء أمَّنتهن لنا فغدون هالكات .. وما نجا من الموت أطفال ، ولا سلم من أمتك أهل ولا عيال ، فها قد أصبحوا فقراء بعد غنى ، وأذلةً بعد عز ، وقد كممت لهم أفواه وارغمت لهم انوف وجباه ، وما استقر لهم بارضهم قرار فتراهم اكرهوا على الهجرة والفِرار ، وقد أغلقت لشهور طوال مساجد ، فلا يسمع منها أذان ولا يرى فيها راكع وساجد.. وعلى هذه الصعاب ، وعلى سؤ الفعل والاكتساب ، فإن لسانهم ما زال ينطق بالإيمان ، وأرواحهم مليئة بالعرفان ، يرددون : نحن بالله عزنا لا بجاه ومنصبِ *** من أراد ذلنا أذله الله والنبي وهم في هكذا حال صعيب ، ووضع معيب ، ما وجدوا خيراً من سلوى تسليهم ، ولا أفضل من خبر يُعزيهم إلا قول باريهم :

( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ )

سيدي وسيد كل من تظله السماء ..

ومن يرتجي فضلك عند القضاء .. إن أحبابك في السودان قد سمّوا عامهم هذا – عام الحزن – تأسياً بك في (عام الحزن ) الذي كنت أشد ما كنت حزناً فيه وقد فقدت عمك وزوجك أم المؤمنين خديجة .. بيد أن أجل ما أصاب أحبابك توهّمُ فقدك ، حيث اعتادوك أن تحطّ رحالك في ساحات الاحتفال بسيد الرجال .. وهم في مصابهم هذا قد التمسوا طريقاً للرجعى لمسيرتك ، يسيرون به على هدى سيرتك وسريرتك ، فإن قتل لهم أقرباء وأحباب ..فقد قتل لك أهل وأصحاب .. ولئن كانوا قد أُخرجوا من بلادهم قسرا ، فقد أخرجك أهلك من بلدك جبرا ، وإن أعدِموا بسبب سرقة المال ، فقد وجدوا فيك خير مثال ، فما تنام وعندك درهم او مثقال .. مع فارقٍ بينك وبينهم بعيد ، وبون شديد .

سيدي وسيد أسيادي ..

اغفر لي جرأتي عليك وشكواي إليك ، غير أن رحمةً سرت في القلب استمداداً من قلبك الرحيم ، وأنت كما قال ربك : (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) وأنت يا سيدي أدرى بحالِهم وأعلم بحويلتهم وأولى مني بهم .

سيدي ومعتمدي ..

وإن ما قدمت ليس بأعظم مما أخرت .. فوالذي أقسم بحق عمرك وميلادك .. ما آلمنا ما ألمَّ بنا ، وما أحزننا ما حصل لنا ، مثل ما آلمنا التقصير في حق الله وحقك من أمر الفرح بك .. وأنت تعلم يا من بالتوسل بك تغفر الذنوب ، أن محل الفرح القلوب .. وقد علمتنا وأنت تخاطب مولاك ( فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) فكيف نملك قلباً بالفرح .. أحزنه حال أمتك وما انشرح ؟ بل كيف تجتمع في مضغة أفراح وأتراح ، وأهازيج ونواح ؟ ..وعلى ذلك الملم وذلكم الألم فإن ألسنة أحبابك تردد بايمان كاملٍ ورضاً شامل ، قول من اسمه مضاف تشريفاً لاسم الله ؛ سيدي الشيخ قريب الله : مولاي عاد العيدُ بالأفراحِ *** فامنن عليَّ بعيد أهل الراحِ يا صاحب المناقب الثرة والسيرة العطرة ..
أنت غني عن إخبارك بعد إخبار الله لك أن ساحات الاحتفاء بمولدك قد سُدت ، وكذا الطرق التي إليها قد مُدت .. وكانت تهزهز جموع القوم قبل هذا أمداحُك ، وتغشاهم من الصلاة عليك أرباحُك .. وهم يسيرون نشاوى نحو ساحات العز ، يضربون فرحين طبولاً فخراً بك ترز .. مرددين إنشاد الضياء اللائح ، محبك سيدي الشيخ محمد الفاتح :

يا رسولاً به سعدنا وفزنا **عندكم سيدي شفاء الجراحِ
ليل ميلادك الذي جلَّ قدراً **كان حقاً من الليالي الملاحِ
يوم ميلادك الذي كان يوماً ** غُمر الخلق فيه

بالأفراحِ
ملأ النور منك كل مكان **بضياء فعم كل

البطاحِ

سيدي صاحب الوجه المتلالي والمقام العالي ..

قد علمنا من ربنا عنك أن الدين له مقاصد خمسة ؛ وأن أولاها الحفاظ على النفس النفيسة ، وأن نبقيها عما يهلكها حبيسة .. وما مثلي يخبر مثلك يا من ليس له مثيل .. أن احتفالاً بمثل ما درجنا عليه سابقاً يعرض أمتك للهلاك ، فإن رضيت ومولاك الذي لا يرضى إلا برضاك .. أجبناك ، وجعلنا أرواحنا رخيصة فداك ، وإن أشرت بهديك وسنتك حفاظا على حياة الناس ، وجمعا للانفاس ، فيجتمع أهل كل دار ، يقرأون سيرة النبي المختار .. حققنا أمر الله ومبتغاك ، وأطعنا الله وأطعناك . سيدي ..
وهل أزداد ذنباً وجرأةً سؤالك أن تسأل لنا مولاك أن نعود سالمين غانمين فرحين مستبشرين .. فإن شفاعتك التي ادخرتها ليوم القيامة الآجلة .. لا ينقص قدرها عند الله بشفاعتك لنا في دنيانا عاجلة ، وإن رجاء سيدنا موسى لك سؤالك ربك التخفيف .. نحن في أشد ما نكون في حاجة له من الرحيم اللطيف .
هذا وأجعل ختام الكلام أتم الصلاة والسلام عليك يا رسول الملك العلام .

خادم مقام تراب نعالك :


محمد الشيخ حسن الشيخ الفاتح الشيخ قريب الله

ربيع الأول ١٤٤٥ ه

اترك رد

error: Content is protected !!