الرأي

عربان الشتات وكيف نحبط مشروعهم الاستيطاني (الجزء الثاني)

الدكتور الدرديري محمد أحمد

في غرة رمضان ٤٤٩ هجرية (١٠٥٨ ميلادية) اجتاح الهلاليون اسوار مدينة القيروان المنيعة التي استعصت على الرومان لأربعة قرون. فاستباحوها وعاثوا فيها فسادا وفجورا وأجلوا عنها اهلها. كانت تلك المدينة، التي أنشأها الصحابي عقبة بن نافع، منارا انطلقت منه بعثات تعليم اللغة العربية ونشر الدين الاسلامي في المغرب العربي كله. فقد ألّف قاضيها سحنون المدونة في الفقه المالكي. وكتب ابن ابي زيد رسالته ونوادره في رحابها. وخط فيها البراذعي تهذيبه. وكانت عظيمة الثراء، فهي المركز التجاري الاول في المغرب العربي كله. لكن الهلاليون قد تركوها اثرا بعد عين. غير ان ذلك لم يكن هو أخطر ما حاق بالقيروان. فالأسوأ منه هو ان القيروان لم تتمكن من ان تنهض من كبوتها. وقد سجل الرحالة الذين عبروا بها بعد سقوطها بعدة عقود، من امثال الادريسي وابن سعيد والعيدري، كيف انهم وجدوها قاعا صفصفا وقد اندرست معالمها ويبست بساتينها وحطمت قصورها واحرقت دورها وسقطت مئذنة جامعها الكبير ومحرابه الشهير، الذي كانت تضبط على اتجاهه محاريب المغرب العربي كلها. بل بسقوط القيروان انطفأ نور المغرب العربي وتلاشى دوره في العالم الاسلامي، وصار للعالم الاسلامي مركزان أحدهما مشرقي (فاطمي وعباسي) والآخر اندلسي. ودخلت بلاد المغرب العربي فترة كئيبة في تاريخها سميت “حقبة الظلام”. اما الخليفة الفاطمي المستنصر ووزيره اليازوري، الذين دفعوا بالهلاليين لتغريبتهم (مزودين كل واحد منهم بحصان ودينار) فلم يبالوا بما حاق بأهل القيروان او مدينتهم. ولم يضعوا اعتبارا لرابطة الاسلام ولدور القيروان الكبير في خدمته.
​أترك للقارئ تسمية من دفعوا بعربان الشتات “لتشريقتهم” إلينا. وأسميها “تشريقة”، مقابل “تغريبة” الهلاليين، لأن الغزاة الذين أتونا قد انطلقوا شرقا وليس غربا. واترك للقارئ كذلك استحضار ما زود به مستنصر هذا الزمان الغزاة من عدة وعتاد مما ذاع خبره. ولا شك ان القارئ يتفق معي ان من دبروا هذه “التشريقة” لن يبالوا بما لحق بالخرطوم واهلها، ولن ينفقوا درهما او دولارا لإعادة اعمارها، ولن يأبهوا إذا اندثر السودان وعفا اثره. هذا رغم ان السودان “جزء من المجتمع الدولي” كما كان يقول حمدوك، ورغم انه ملتزم بالتوقيع وشيكا على الاتفاقيات الابراهيمية، ورغم انه اجتهد لاسترضاء امريكا والسعودية بقبوله وساطتهما.
فاذا كان بنو السودان يعتبرون بمصائر من سبقهم من الامم، وإذا كانوا عارفين بالطبيعة المتوحشة للإقليم الذي فيه يعيشون، وإذا كانوا مدركين لشراسة المجتمع الدولي ومَكره الكُبَّار، فانه لا ينبغي لهم التعويل الا على الله وأنفسهم إذا أرادوا لبلادهم أن تقف على قدميها ولعاصمتهم ان تعود رياضاً غناء على مقرن النيلين. وأول مقتضيات ذلك هو ألا يسمحوا لما حدث بأن يشتت جمعهم ويفرق كلمتهم. فعليهم ان يسدوا المنافذ لمنع هذه “التشريقة” من ان تتكرر. ونخصص هذا الجزء من المقال لاستقصاء ذلك.
​​ حرص من نظموا هذه “التشريقة” على الاستفادة من المسميات القبلية المشتركة لعربان الشتات مع بني عمومتهم من قبائل جهينة بالسودان. فكان الغطاء الذي استخدم لتنفيذ هذا المشروع الاستيطاني هو ادماج عربان الشتات في قبائل جهينة السودان ذات الأسماء القبلية المطابقة لمسميات قبائل عربان الشتات. فعربان الشتات ينتسبون الى الجد الأكبر “جنيد” الذي هو أيضا جد مجموعات كبيرة تستوطن دارفور وكردفان والنيل الأبيض. ويشمل ذلك الرزيقات والمسيرية والحوازمة والمحاميد والماهرية واولاد راشد وبني هلبة والتعايشة والهبانية والسلامات وخزام وسليم واولاد حميد. ويحظى اسم “جنيد” باحترام كبير في الذاكرة الجمعية لهذه القبائل. لذا أسس من نظموا “التشريقة” المئات من المنصات الاجتماعية والإعلامية في الفضاء الإسفيري تحمل اسم جنيد. واستأجروا المقار لذلك الكيان القديم الجديد. وسميت كبرى شركات آل دقلو “شركة الجنيد”. ثم نفضوا الغبار عن ذكرى “عطية” و”حيماد”، إبني جنيد، وجعلوا بإسميهما تمظهرات سياسية لكيانين فرعيين. ولكن شتان بين أبناء جهينة السودان وعربان الشتات. فبسبب الهجرات التي تطاولت زمانا وتباعدت مكانا تباينت المجموعتان تباينا كبيرا رغم وحدة الأصل والاسم، فاتخذتا طرائق قددا وصارت لكل منهما شخصيتها وهويتها الخاصة. تلحظ ذلك في اختلاف اللهجات وطرق التحية والمأكل والملبس والنظافة الشخصية والمحكيات التراثية. كما تلحظه في رقة الدين لدى عربان الشتات وجهلهم بالشعائر والشرائع وبغضهم للغريب وعنصريتهم المفرطة وضعف دور المرأة لديهم.
​إضافة الى الاثر الذي نتج عن اختلاف الهجرات، هناك تباين آخر بين المجموعتين حدث بسبب انصهار قبائل جهينة السودانية في البوتقة الوطنية في هذه البلاد نحوا من ثلاثة قرون طورت فيها هذه القبائل ولاء لوطنها الجديد وامتزجت في اعراقه المتعددة. فشاركت قبائل جهينة السودانية في ملاحم السودان ومشاهده الكبرى بدءا بمعركة المقدوم هاشم سلطان المسبعات ضد السلطان تيراب عام ١٧٩٠ ميلادية. حيث دخلت تلك القبائل في حلف مع العبدلاب لمناصرة المقدوم هاشم. كيف لا وكانت لها موجدة ضد السلطان تيراب وسلفه الذين أساءا معاملتهم وسلطا زبانيتهما على الظعائن والقطعان عند عبورها بلادهما. وضربت جهينة السودان بسهم وافر في الثورة المهدية، التي خرجت منها لها ما لها وعليها ما عليها شأنها في ذلك شأن كل قبائل السودان الكبرى. وحازوا في ربوع غرب السودان حواكير فسيحة غير متنازعة. فنَعِم الهبانية، مثلا، بدارهم “الكَلَكة الما ليها مَلَكة”، واعتز المسيرية بدار “دينقا ام الديار”. وعلى ذلك قس. اذ ما من قبيل منهم الا وله بادية لا تقل مساحتها عن إنجلترا. ثم برز منهم افذاذ في الإدارة الاهلية ممن شبوا في بيئة صاغها ترتيل القرآن وتلاوة راتب الامام المهدي وصهيل الخيول وازيز النحاس، فتشربوا الفضائل السودانية كابرا عن كابر وأطلق حكماؤهم من طراز الناظر بابو نمر والناظر موسى مادبو والناظر علي الغالي مقولات جرت مجرى الأمثال. وقد زامل هؤلاء اضرابهم من زعماء العشائر الأخرى مثل شيخ العرب عوض الكريم أبو سن والناظر علي التوم نداً لند وبادلوهم وداً بود. وكانت بيوت النظار في دارفور وكردفان رائدة في ابتدار المصاهرات مع قبائل سودانية أخرى. وحذا حذوهم الكثيرون من افراد قبائلهم فاختلطت الدماء وتمازجت الأعراق وتشابهت الملامح. ثم جاء التسلك في الجندية والشرطة، والالتحاق بالتعليم النظامي، وامتهان الوظيفة الحكومية، والاشتغال بالتجارة والزراعة، والانتظام في الأحزاب السياسية الكبرى والطوائف الدينية، وانتشار الراديو والتلفاز، وذيوع اغنية الحقيبة، وشيوع رياضة كرة القدم، وما الى ذلك من ممسكات الوحدة الوطنية. ثم ترابطت اصقاع البلاد المترامية بالسكك الحدي وطرق الاسفلت فتواصل الناس وتآلفوا. ثم كان الانفعال بالقضايا الوطنية الكبرى مثل الاستقلال وقضية الجنوب وثورة اكتوبر ونزاع حلايب. اصابت جهينة السودانية من كل ذلك بقسط، مما أدى الى تكثيف تفاعلها في الفضاء الوطني وتقارب مزاجها وبقية السودانيين وتوحدها معهم في الوجدان. كما ظهرت في بوادي هذه القبائل كبريات المدن ووسيطاتها من شاكلة نيالا وبرام وعد الفرسان والضعين والفولة والدبيبات فعرف قاطنوها مخالطة المجتمعات والمنتديات الجامعة والمناسبات المفتوحة وتعدد الاعراق. وحين اتفق السودانيون على اعلان الاستقلال من داخل البرلمان انبرى لتقديم الاقتراح عبد الرحمن دبكة ناظر عموم بني هلبا. لم ينل الناظر دبكة ذلك الشرف صدفة، وانما كان لذلك سبب معلوم وقصة تروى. اذ كان قد استقبل قبلها بعدة أشهر الزعيم إسماعيل الازهري اثناء جولته في دارفور استقبالا مهيبا بعد الغنم. وعند اعتلاء الناظر دبكة المنصة للترحيب بالضيف الكبير هتف “عاش السودان حرا مستقلا”. فهاجت الجماهير وماجت وارعدت بذلك الهتاف ليشق عنان السماء. وقد تأثر الزعيم الاتحادي بذلك ايما تأثر. وربما أسهم هذا المشهد العفوي في اكمال الصورة لديه والبلاد تتأهب للاختيار بين الاستقلال او الوحدة مع مصر. ومن ثم تقرر ان يتقدم دبكة بذلك المقترح التاريخي.
​اين عربان الشتات من كل هذا! اين هم من هذه البوتقة الكبرى التي صهرت السودانيين جميعا وقوت رابطتهم. وأين الانفتاح على هذه المعاني الوقادة من الإنكفاء على سرديات مغلقة ولدتها هجرات ابدية في تيه سرمدي. وهل لعربان الشتات مصاهرات حتى مع بني عمومتهم جهينة السودان فضلا عن ان تكون لهم صلات بقبائل السودان الأخرى! انني لا اقول ان هؤلاء ملائكة واولئك شياطين. لكنني ارصد ما بين الفريقين من اختلاف شديد قد يفوت على الذي تُعشي بصره الاسماء المشتركة للقبيلين. وهو اختلاف له انعكاساته العملية. فقد رفض زعماء جهينة السودان مشروع حميدتي وتوجسوا خيفة من اشراك عربان الشتات في مسائل من خصوصيات وطن ليس لديهم له أي انتماء. فنفض اقطاب بيت مادبو اياديهم مبكرا في اعلان جهير. ولحقت بهم بيوتات النظارة في دار المسيرية. بل وجه مثقفو هذه القبائل سرا وعلانية نداءات لحميدتي وهو في عزه وصولجانه يوزع الملايين كما توزع قطع الحلوى. فناشدوه ان يطامن من احلامه وقالوا “انا نرى شجرا يسير”. وقد قرأ الناس ما كتبه المهندس عبد الله مسار. وسمعوا ما أعلنه السيد موسى هلال. وبلغ المهتمين خبر النصيحة المرة التي صدع بها سياسيون كبار من هذه القبائل في جلسات خاصة مع حميدتي. ومن هؤلاء اقطاب المسيرية احمد الصالح صلوحة وعمر سليمان والخير الفهيم المكي. ومنهم سلمان سليمان الصافي زعيم الحوازمة. وحين شارك في مقتلة الدعم السريع وهمجيته بعض ابناء هذه القبائل، إما ممن كانوا أصلا ضمن مجنديه او من المارقين الذين اغراهم السلب والنهب، تبرأ ذويهم من فعالهم. فأبوا أن يضيفوهم لدى عودتهم او يعترفوا ان ما أتوا به غنيمة تحل لهم. بل منهم من رفض ان يمد يديه لقراءة الفاتحة على ابنه الذي قتل في صفوف الدعم السريع. وقد ساء هذه القبائل ما لحق بالجنينة مثلما ساء ذلك سائر اهل السودان، بل أشد. ذلك لأن الدعم السريع قد استغل اسماء هذه القبائل في تلك المجزرة البشعة. فما يجمع ماهرية السودان بالمساليت أرسخ من ان تنفصم عراه بسبب فعال هذه الجماعة المارقة. وما بين الناظر محمود موسى مادبو والسلطان سعد عبد الرحمن بحر الدين من رابطة الوطن والاخاء في الدين أمتن من أي انتماء ضيق.
​ إن استغلال من نظموا هذه “التشريقة” اسم قبائل جهينة السودان هو اشد جوانب هذا المكر دهاء وأكثرها تعقيدا. ذلك انه من شأن هذا الاستغلال أن يطلق عصبيات ضيقة من عقالها. فاذا ما انجر السودان مجددا وراء تلك العصبيات فسيشهد انبعاثا جديدا لفتنة دارفور. وإذا ما سار السودان في هذه الطريق النكِدة فسيوقظ فتنة تتضاءل ازاءها الفتنة التي اشتعلت في عهد الخليفة عبد الله التعايشي. فتنةٌ تجتاح السودان كله فتقسمه الى فسطاطين، فسطاط لمن استهدِفوا بهذه “التشريقة” وفسطاط لمن يعتبروا ضمن من كانوا وراءها. تقسيما جزافيا وعلى الهوية. وهكذا يكون من خططوا “للتشريقة” قد نجحوا في مشروعهم بالرغم من الهزيمة العسكرية التي حاقت بهم. ذلك انهم سيكونون قد غرسوا البذرة الاولى لتفتيت السودان واغراقه في حروب أهلية لا تقوم له بعدها قائمة. وهكذا تواتي هؤلاء المخططين فرصة جديدة لتوطين اعراب الشتات بالسودان. فبسبب الفسطاطين سيكون الناظر مادبو عدواً للسلطان بحر الدين. وبسبب الفسطاطين ستخفت أصوات مسار وصلوحة والصافي واضرابهم فلا يصدعون بقولة الحق لدى قائد “التشريقة” الجديدة.
​ ان هؤلاء العربان هم المهدد الخارجي الاول للوحدة الوطنية في السودان. فكم من حضارة كبرى اودت بها الهجمات المتكررة من شعوب صغيرة متبربرة تربض في الجوار القريب. فذلك ما فعله التتار بالدولة العباسية، وما فعله الوِندال والقبائل الجرمانية بالإمبراطورية الرومانية، وما فعله النورمانديون بانجلترا. بل هذا هو ما يعكف من خططوا لهذه “التشريقة” لفعله الآن. إذ هل أتاك نبأ معسكر العوينات الذي دمره نسور الجو اول من أمس! وهل علمت ما روى من أنه كان فيه أربعين ألف مقاتل بعدتهم وعتادهم وتاتشراتهم! فإذا كان هذا المعسكر بالعوينات حيث تطاله طائراتنا المقاتلة، فما يدريك لعل المعسكر القادم يكون في اجدابيا او غيرها من المواقع الليبية. ومن ثم فإن اوجب واجباتنا هو ان نتخذ من الترتيبات ما يعصمنا من زيارات لاحقة ومتكررة لهؤلاء العربان لديارنا في الجنينة او نيالا او الفاشر او الخرطوم. فقد عرف هؤلاء العربان السبيل لبلادنا، وعرف من هم وراءهم كيف يوظفونهم. ولن يقوم بنو السودان بهذا الواجب الا إذا تجاوزوا هذا الكيد الكبير بأن يتذكروا وصية شاعر صه يا كنار “فاذا تبدد شمل قومك فأجمعن”! فان هم فعلوا نجحوا في صد هذه التشريقات، “تشريقة” تلو “تشريقة”. وستنفتح لهم بعدها مغاليق المستقبل. فالتجارب القاسية هي التي تبني الأمم. وقد مرت الأمم العظيمة كلها بتجارب مريرة مثل التي تعركنا اليوم. فلولا ما عانته أوروبا اثناء الحربين من فظائع لما قوى عودها واشتد. ولو لم يتعرض اليهود لمحنة الهولوكوست لما عنَت لهم الوجوه. ولولا الحرب الأهلية الامريكية لما أصبحت أمريكا أعظم دولة في التاريخ. ولولا التصميم الذي تولد لدى الشعب الصيني بعد انقضاء ما سمي قرن المذلة Century of Humiliation (١٨١٤-١٩١٥) لما نهضت الصين. لا اشك مطلقا ان المحنة التي نمر بها اليوم من هذا الطراز الذي ينضج الأمم. فهي حَرية بأن تدفع لسائر شعاب الحياة بجيل جديد تعتقه هذه المأساة. وهي كفيلة بأن تولد لدى النخبة السياسية رؤية ثاقبة تستثمر هذه الفرصة التي واتت من بين فرث ودم لتطوير مشروع جامع يتجاوز الألاعيب الصغيرة التي قعدت بنا نحوا من سبعة عقود.
​ ما ان اندلعت هذه الحرب الا وكان كل من لاقيته او هاتفني من غير السودانيين يقول لي انه ما كان يظن ان معين السودانيين من التسامح والصبر على بعضهم يمكن ان ينضب. وكان ذلك القول يوجعني ولا يواسيني. غير ان عزائي كان هو ان هؤلاء لا يعلمون ان الذين اتخذوا من عاصمة بلادنا مضمارا للعبة الموت هذه، ما هم من بني بُجدتها ولم يتشربوا لِبانها. فقد أُتي بهم غزاة في “تشريقة” وفدت الينا من وراء الحدود ومن دول الشتات. اما السودانيون فانهم لم يهجروا “شدت” بعد، ولن يستبدلوها بكرة القدم الامريكية. June 26, 2023

اترك رد

error: Content is protected !!