بعد تجريد الأحزاب السياسية الأربعة من الاستقواء بمؤسسات الحكم الانتقالي والتي اختزلتها في مغانم ومحاصصات متدثرة بشعارات المدنية والحرية والعدالة الزائفة، وتبلور زيفهم وخداعهم في التنكب عن الالتزام بالوثيقة الدستورية، وشهوتهم الجامحة في السلطة بدعوتهم للمكون العسكري بتمديد الفترة الانتقالية 15 عاما،والتاريخ ينبئنا أن الرئيس السابق النميري انهى الشرعية الثورية بتنظيم انتخابات في أقل من ثلاث سنوات من انقلابه في مايو 1969، والرئيس البشير شرعن لانقلاب الإنقاذ في انتخابات عام 1996. أما نشالوا ثورة ديسمبر من الأحزاب اليسارية والمجموعات الليبرالية العلمانية أرادوها سلطة للأبد وشعارهم (الانتخابات ما بتجيبنا) وطفقوا في شرعنة استمرارهم في الحكم بالاستقواء بالغرب الأوربي والأمريكي، وذلك بالتماهي مع واردات الثقافة والحضارة الغربية، وخلع المجتمع السوداني من ثراثه الثقافي والهوياتي.
(2)
لما ادرك شركاء الأحزاب الأربعة في الحكم انسداد الأفق وتأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية والمجتمعية دفعوا بمبادرة لاصلاح مسار الفترة الانتقالية ولكن تمترست مجموعة الأربعة في مواقفها المتصلبة، ولذلك جاءت قرارات الفريق البرهان في يوم 25 أكتوبر كمبادرة تصحيحية هدفها العودة لمنصة التأسيس في 11 أبريل 2019(يوم سقوط الرئيس السابق البشير) والغاية منها فك احتكار الأحزاب الأربعة لإدارة المرحلة الانتقالية وإعادة كل صناع الثورة السودانية شركاء في مهام الانتقال والتحول الديمقراطي المستدام لانهاء الثنائية المضرة التي إنتجها سلوك الأحزاب الأربعة الاستبدادي (نحن صناع الثورة) و(هم ضد الثورة)والمؤسسة العسكرية الوطنية ستنسحب من المشهد السياسي بعد تسليم السلطة لأهل المصلحة كما حدث في الديمقراطية الثانية والثالثة
لذلك على القوى السياسية الوطنية والمجتمع المدني والقيادات الأهلية والدينية والصوفية رد تحية الفريق البرهان بأحسن منها والتفاكر والتشاور معه حول إدارة مهام المرحلة الانتقالية القادمة، وتقديم الخيارات من الكفاءات الوطنية المستقلة لرئاسة مجلس الوزراء، وتجاوز الدكتور حمدوك الذي انغمس في مشروع أدلجة المرحلة الانتقالية، ومن يحاجج بدور الدكتور حمدوك في عمليات رفع العقوبات الاقتصادية ورفع اسم السودان من قائمة الإرهاب ودمجه في المجتمع الدولي والمؤسسات الاقتصادية العالمية عليه أن يدرك أن بروسيس هذه الجهود بدأت منذ عام 2001 والفريق التفاوضي الذي أنجز هذه المهمة من قيادات النظام السابق
(3)
ان قرارات الفريق البرهان أعادت كل القوى السياسية الوطنية الى نقطة التعادل وأمامها تحدي العودة إلى قواعدها الاجتماعية وبناء مؤسساتها الحزبية، وتحويل طاقات المجتمع الثورية السلبية إلى طاقات فكرية وسياسية بناءة تصب في تحديث الأحزاب، وتجديد خلاياها وقياداتها، وداعمة للمشروع الديمقراطي،وكذلك أمام الأحزاب السياسية تحدي إنهاء حالة القطيعة وإدارة حوار شامل حول آليات صيانة مشروع الثورة السودانية من الاختطاف واجتراح الادوات العقلانية للعبور بالمرحلة الانتقالية لبر الأمان الانتخابي، والحوار حول ادارة الانتخابات القادمة توافقيا بما يصب في استدامة الديمقراطية وإنهاء دورات الحكم الشريرة في السودان.
(4)
بما أن المصايب يجمعنا المصابينا أمام الأحزاب السياسية الوطنية فرصة تاريخية من جديد لحشد كل قطاعات المجتمع السوداني وبناء الكتلة التاريخية الحرجة لانجاز التحول الديمقراطي المستدام لسد المنافذ أمام تشكيل حاضنة سياسية ومجتمعية للانقلابيين المغامرين
والتحدي الاخطر يتمظهر في أن السودان في لحظة تاريخية فاصلة تتساوى فيها حالة البقاء ، والسقوط في فخاخ الفتنة الاجتماعية والتفكك في محيط إقليمي غاية في التشظي والسيولة ومخاطر تأثير ذلك السيناريو على الأمن الإقليمي في البحر الأحمر، والقرن الأفريقي، إلى إقليم شرق المتوسط، وتمتد مخاطر التأثير لتصل إلى الأمن العالمي، وهذا يتطلب من القوى السياسية الوطنية النضج والحكمة وإنهاء حالة الاستثمار السالب في خطاب الكراهية والهويات القاتلة، وضرورة إنهاء حالة الخطاب الثوري التحشيدي والشعبوي المتمظهر في التتريس والمظاهرات والاضراب والعصيان المدني وشيطنة المؤسسة العسكرية،وضرورة استثمار القوى السياسية في القوة الناعمة والمتمثلة في إطلاق الحوار الفكري والمناظرات السياسية حول قضايا البناء الوطني الديمقراطي في الوسائط الاعلامية ، والصحف والقنوات الفضائية، ودور الأحزاب، وسوح النشاط الطلابي في الجامعات، وفي الميادين العامة.
(5)
ان استثمار القوى السياسية الوطنية في الادوات الناعمة المدخل الاستراتيجي لنجاح مهام المرحلة الانتقالية، والعبور منها يشكل المدخل الاستراتيجي للوصول إلى ميس الانتخابات، والتي تعني المدخل القانوني والعقلاني لإدارة وتنظيم ومأسسة الخلافات بين القوى السياسية.
ان ادارة هذه التحديات بوعي وحكمة السبيل لنشل السودان من شفير الهاوية ، إلى آفاق الوحدة والسلام والتحول الديمقراطي العميق في وطن يسع الجميع.