الرأي

صلاح حاج سعيد: “مااصلو حال الدنيا… تسرق منية فى لحظة عشم “

بقلم السفير عبد المحمود عبد الحليم

…يقول الشاعر صلاح حاج سعيد فى قصيدته “لقيتو واقف منتظر ” التى يؤديها الفنان الطيب عبد الله ” يخلق من الشبه اربعين..” …لكنه يندر ان تجد شبيها لصلاح ، الذى رزئنا بفقده قبل ايام ، كمجدد في حركة الشعر الغنائى السودانى و احداثياته المضامينية وانماطه التعبيرية ودلالاته المفاهيمية واشجانه وحمولاته الانسانية والعاطفية……فتح رحيل صلاح غرفة حزن جديدة فى قلوب الملايين ليست بعيدة عن مكان صديقه عمر الطيب الدوش ،ليضاعف ذلك من فواجعنا فى عام ” الحزن النبيل ” هذا والذى ارتحل فيه على ظهر غمامة بيضاء الى دار الخلود السر قدور وبشير عباس وعدد آخر من المبدعين……فى سبعينات القرن الماضي تعرفنا بصلاح……كنا نلتقيه بمنزل الخال الموسيقار والملحن محمد سراج الدين بالسجانة الذى كان يزوره ايضا و بصورة مستمرة ومتصلة بل ويقيم معهم احايينا اخرى الفنان مصطفى سيد احمد بحكم عمل محمد سراج الدين وحرمه الاستاذة منى عبد الرحيم ومصطفى سيد احمد بمعهد تدريب المعلمات بام درمان حيث تعززت بينهم وصلاح وحرمه عواطف عثمان شقيقة فنان الكاريكاتير عز الدين عثمان الوشائج الاجتماعية والعلاقات الابداعية التى لم يكن بعيدا عن اجوائها الفنان محمد ميرغنى والملحن حسن بابكر والفنان عثمان مصطفى…ويدلل على ذلك قيام محمد سراج الدين عباس بتلحين عملين كبيرين في نفس الفترة..” تباريح الهوى ” لمحمد ميرغنى و ” عارفني منك ” او الشجن الأليم لمصطفى سيد احمد…. ان تتبع الرسم البيانى لاشعار صلاح حاج سعيد ينبئك ان تلك القصائد تخرج من وجدانه بثابت ومتغير…فأما الثابت فهو جمال الإبانة وحلاوة النظم ..وأما المتغير فهو تلوينها بازهار كل موسم جديد فتميزت بالمواكبة وملامسة اشجان المتلقي وفضاءاته الحياتية…تعاون صلاح حاج سعيد باكرا مع الفنان محمد ميرغنى فكانت ” كفاية الوحدة مابقدر انا ..طريقك تانى امشيهو…اصلو العمر كم مرة عشان نهدر امانيهو ” …واتبع ذلك لاحقا من الحان حسن بابكر بأغنية ” ماقلنا ليك..الحب طريق قاسى وصعيب من أولو…مارضيت كلامنا وجيت براك…اهو دا العذاب اتحملو “……أما “البينا ماساهل ” و ” صدقنى” فقد كانتا عنوانا لثنائيته مع عثمان مصطفى الى جانب ” موعود ” وفيها ” لا عارف اجى وانسى واراضيكا…ولاهاين..افوت منك اخليكا…” و ” عفو الخاطر ” للهادى الجبل…بينما شكلت ” يانرجسة”و “ياجميل يا رائع ” قوام تعاونه مع محمد الامين…وقد سلك صلاح شارع الموردة وذهب برفقة ونصيحة الموسيقار حسن بابكر لمقابلة الأستاذ بشير عباس بدار الفنانين وتسليمه قصيدة ” نور بيتنا..شارع بيتنا ” لتؤديها البلابل، ويقول صلاح ان مناسبتها كانت قدوم مولوده الأول جمال…تذهب ” ياجميل ياراقى احساسك ” ليؤديها حسين شندى …وعن ملحنها صلاح ادريس يقول صلاح انه أجاد وهو ‘موهوب ومتعدد الاهتمامات.. الا ان المال ظلمه ‘…على كثرة الاعمال التى ادتها مجموعة مقدرة من الفنانين الكبار لم يجد بعضها الانتشار الكافى الا ان تجربة صلاح حاج سعيد ومصطفى سيد احمد تظل الابرز …يقول صلاح عنها انها علامة مضيئة فى مشواره وان لها خصوصية.. ويمضى ليشير بان تجربة مصطفى سيد أحمد تستحق ان يسبر غورها مضيفا أن ذلك لم يحدث بعد ، وأن قصيدة مثل ” مريم الاخرى” سبقت مضامينها زمانها لم تلقى حظها من التحليل ، فلم تجد الأعمال التى كان نصيبها من البث ضئيلا التركيز المطلوب…جمع بين مصطفى وصلاح ما يصل وربما يتجاوز الاربعة عشر عملا لعل أشهرها “الشجن الاليم ” و ” المسافة ” و ” عدا فات ” و “الحزن النبيل “….. ‘ وبقيت أغنى عليك..غناوى الحسرة والاسف الطويل..وعشان اجيب ليكى الفرح…رضيان مشيت للمستحيل..ومعاكى فى اخر المدى فتينى ياهجعة مواعيدى القبيل…بعتينى لى حضن الأسى..سبتينى للحزن النبيل…ومشيت معاك كل الخطاوى الممكنة..وبقدر عليها وبعرفا …اوفيت وماقصرت في حقك ولاكان عرفة غيرك اصادفا…وقدر هواكى يجيبنى ليك..جمع قلوبنا..وولفا….وكتين بقيتى معايا فى اعماقي…فى أعماق مشاعرى المرهفة…لامنك ابتدت الظروف..ولابيكى انتهت الامانى المترفة ‘ ولأيزال أمام شاعرنا صلاح بوح المسافة ‘ …لسه بيناتنا المسافة والعيون.. واللهفة والخوف والسكون….ورنة الحزن البخافا تعدى بالفرحة وتفوت..وامشى بالحسرة واموت ‘…’ عدا فات..زمن العيون الألفة والحضن الملاذ…ورهافة الحس البلون ضحكة الناس العزاز….بعد الحنان الكان زمان….استوطن المطر الحراز….’ ..لم يفت على صلاح حاج سعيد تنبيهنا مرارا بمرارة البعد ….” طوريتك فى الطين مرمية….كوريتك يابسة ومجدوعة… لاغيبتك كانت مرضية…ولافوتك كانت مبلوعة “….وانت يا صلاح..لم يكن ارتحالك الا حزنا ووجعا…….. “مااصلو حال الدنيا تسرق منية فى لحظة عشم “… …….. …

تعليق واحد

  1. ( ما أصلو حال الدنيا تسرق منية فى لحظة عشم )

    قرأت ما خَطَّه قلم السفير عبد المحمود عبد الحليم في فقد الشاعر صلاح حاج سعيد فأدخلني معه غرفة الحزن التي انفتحت في قلوب الكثيرين. فرأيت تلك الغمامة البيضاء المتجهة إلى دار الخلود وعلى متنها مفقودي الفن ومن بينهم (صلاح) الغمام, شاعر الإعجاز والتبريز, وأدركتُ حينها أن زَخَّاتُ الغناء الشفيف قد صَبَنَتْ , وتحولت دوحة الفن صحراءَ فدفداً. وغَشِيَتْ نسائمَهُ العليلةَ سافياتُ السَّموم فأحالتها إلى حَمَارَّةِ قَيْظٍ لاهب . (صلاح) المبدع الذي شَكَّل المجازَ وسبكه في أغانيه تبرًا إبريزاً. ونصب صبابته فيها سُرادِقاتٍ رائقاتِ الوَشْيِ. فتمرد فَنِّيّاً لما ضاقت به وحشةُ المكرورِ الرّتيب والُمسِفِّ النَّشازِ .
    وبين البسملات والنهايات في مشواره الفني رفع (صلاح) النِّداءَ بحي على الطَّربِ فلبى النداء لإدراك ليلة قدر الفنِّ واشتمام فوح رشَّةِ عطرِ التَّألُّقِ والتَّأنُّقِ الطيب عبد الله و محمد ميرغني ومصطفى سيد أحمد ومحمد ميرغنى وعثمان مصطفى والهادى الجبل والبلابل وحسين شندي لتأديةِ فروض الشجن في محراب الجمال.
    وإِنْ وَقَفْتَ على بعض أغنياته مثل (الشجن الأليم ) و ( المسافة ) و ( عَدَّى فات ) و (الحزن النبيل) واستطعمتها بتأنٍّ ستدرك بوضوح أن أي قصيدة منهن هي الحياة بكل جوانبها, مضامينها ,وعبرها وتعابيرها, وأدلتها ودلالاتها, وأشجانها وأتراحها وأفراحها, وأبعادها الإنسانية والعاطفية, حتى كادت أن تُنْشِدُها الأيامُ ، و تحفظها الليالي, لما فيها من أَنِيقِ السّبكِ، ومَضْبُوطِ الرصف، وأَخَّاذِ الوصف . فهو بلا شك ضاربٌ في نظم الأغاني بأعلى السّهامِ يظهرها كعروسٍ كستها القوافي الرصينة، وحلتها المعاني المبينة.
    ومن حيث ما عَنْوَنَ السفير الأديب لمقاله اختتمه . فكانت هذه العبارة ( ما أصلو حال الدنيا تسرق منية فى لحظة عشم ) أصدق ترجمان لحالة الرضا التي تشوبها الحسرة. إذ أن العشم هو الطّمع في الكرم من باب المحبّة وحسن الظّن في تحقيق الرغبة المرجوة. والمقاصد دونها في أغلب الأحايين مُنْيَةٌ أو مَنِيَّةٌ.
    السّلام على صلاح حاج سعيد شاعر الوجدان واللهفة والخوف ورنة الحزن والشَّكِيَّةِ. وكل ذلك بجمال الإبانة وحلاوة النظم والتزهير المنتقى. السّلام عليه وهو يفض التنازع بين الرصانة والإسفاف متميزا بالمواكبة وملامسة الأشجان جنبا إلى جنب مع الموروث الفتَّانِ. وأضم صوتي إلى صوت السفير بأن ارتحال صلاح لم يكن إلا حزناً ووجعاً.
    محمد المجتبى بن الشيخ السري
    المملكة العربية السعودية
    الفاتح من ديسمبر 2022

اترك رد

error: Content is protected !!