ثقافة ومنوعات

سيف قدقود.. نغمُ فخيم.. وفقدُ أليم..

بقلم : محمد خير عوض الله

كتب كثيرون عن فقيد الأدب والفن، الفنان المبدع الراحل سيف الدين حسن قدقود، رحمه الله، فقلت في نفسي: ماذا سأكتب؟ أو: ماذا سأضيف؟ وهل تفي الكلمات حق هذا الإنسان الشهم المبدع؟ وأعترف أنه لم تربطني علاقة خاصة بفقيد الشباب والفن الراحل قدقود، لكن الحديث عنه لايحتاج بالضرورة لوشيجة خاصة، فقد كان وقته وفنه ونفسه وماله ملكاً مشاعاً لكل من يطرق بابه أو يدعوه لمناسبة، وهذه صفة معروفة فيه رحمه الله، لم يغلق على نفسه داخل أسوار فنّه كما يفعل بعض من داهمتهم الشهرة، ولم تحدثه نفسه بتشييد مكانة أدبية اجتماعية عالية، من الغرور والزهو الأجوف الذي يرفل فيه بعض المشاهير ونجوم المجتمع، كان على عكس ذلك، يجالس الناس حيث التقاهم، ويجاملهم في أفراحهم وأتراحهم، لم تؤثر الشهرة في علاقاته الاجتماعية الرحيبة الذاخرة، بل أكسبتها طعماً إضافياً، لأنّ الناس يضاعفون محبتهم له وهو يمنحهم الحب والود في سخاء فطري غير متكلّف. كذلك لم تؤثر المادة على إنسانيته الوافرة، وأصالته الحاضرة، فهو لايتوقف عند حقوقه المادية، ولا يجعل فنه كالسلع التي يفاصل الناس في أسعارها، ولايحرم اسرةً من إكمال سعادتها بزفة ابنها أو بنتها، وتتويج أفراحها ب(دارات) الفرح البهيجة التي لايجاريه فيها فنان من أبناء جيله.. لم تكن المادة عنده سوى (مصروفات)، واستحقاقات أعضاء الفرقة وترحيلهم.
كان مستودعاً للأنس اللطيف، والظُرف و(الفكاهة الشعبية الريفية الخالصة) إن جازت التسمية، لايمل الناس مجلسه، بل لايطيقون مغادرته، يتحلقون حوله حيث كان.
كان رحمه الله (ملكاً) في هندامه وحرصه على صورته الاجتماعية، يدرك أنّ المواددة و(المواجبة) والتواضع بين الناس، وتعمير مجالسهم بالنكات البريئة، والفكاهة اللطيفة، لاتعني إلغاء الحد الفاصل الذي يحفظ له مساحته الخاصة كنجم اجتماعي، يؤدي عملاً تلتف حوله جماهير واسعة الانتشار، كان يدرك ذلك بحسه الاجتماعي الرفيع، وقد استطاع مزاوجة كل ذلك بمهارة عالية جداً، جعلته يتبسط لأدنى درجات البساطة، وفي ذات الوقت يحتفظ بهيبة الرمز الفني، وكاريزما النجم الاجتماعي.
بدأ رحلته مع الفن باكراً، فقد غذّت موهبته الفنية وصقلتها، عوامل عديدة.

الراحل / سيف الدين قدود


ولد الفنان سيف في العام 1962م ونشأ في (تضاريس) متضادة وملهمة في ذات الوقت تأتلف الطبيعة فيها من (الجبل والنهر)، كذلك تمنح أصوات الطيور و السواقي والطلمبات، تغذية غير محسوبة وغير محسوسة للالهام الفطري الذي يسكنه، سيما في وضع الألحان لاحقاً، عاش طفولته وصباه في مجتمع يعشق الفن و(يمارس الطرب) وتمثل فترة انتقاله لدراسة (المرحلة الثانوية) بمدرسة كورتي الثانوية، والسكن في داخلياتها، لمدة ثلاث سنوات، مثلت نقلة كبرى في صناعة شخصيته الفنية
واستخراج الفنان الكامن بداخله واشهاره لاحقاً، هناك التقى بشاعريه محمد أحمد الحبيب وكمال حسن محمد، الطالبين في المدرسة وقتها.. كان الطالب سيف يجيد وضع الألحان ويشعل الفرح والمرح والطرب، وكانت تلك البدايات، صقلتها مرافقته للفنان الكبير صديق أحمد في كثير من الحفلات، وفي تلك الفترة، كانت الإذاعة تمثل (الحبل السري) الذي ينقل الغذاء الثقافي والفني والأدبي لكل أفراد الشعب السوداني في كل مدنه وقراه النائية البعيدة.. كان السودان كله يعيش ثورة فنية عظيمة، تحتشد برموز كبار، وأهرامات شاهقة، مثل عبدالعزيز داؤود وإبراهيم الكاشف وحسن عطية وإبراهيم عوض وأحمد المصطفى ومحمد وردي وسيد خليفة وعبدالكريم الكابلي.. الخ. وفي مجال أغنية الدليب/الطمبور، تجد النعام آدم وعثمان اليمني ومحمد كرم الله ومحمد جبارة وصديق أحمد.. الخ. وفي مجال الشعر تجد حسن الدابي و إسماعيل حسن وإبراهيم ابنعوف ومحمد سعيد دفع الله والسر عثمان.. الخ. في تلك الفترة، يعلن موهوب في بدايات شبابه عن نفسه.. أي جرأة هذه؟! بل أي ثقة بالنفس هذه؟! واضح أنّ سيف كان يمتليء ثقةً بنفسه، كان احساسه بالفنان في داخله عالياً، كان يتحسس المخزون الضخم من الألحان والحس الفني والذوق الفني وامواج الطرب المتلاطمة بداخله، كان يتحسس كل ذلك، لذلك أعلن عن نفسه بقوة وجرأة، تسنده مواهب شعرية جديدة قوية تعلن عن نفسها معه بالتزامن.. فأي جرأة هذه..؟ الفنان المبتديء يصعد على شهرة الشاعر، وكذلك الشاعر المبتديء يتسلق شهرة الفنان، لكننا أمام تجربة جريئة وقوية ولدت ناضجة، فنان وشاعرين في شبابهم الباكر..
خرج سيف للجمهور بأعمال البداية الواهية؟ كلا.. كانت أعمال قوية خالدة،
قصائد بديعة، وألحان فريدة غير مطروقة بتاتاً، وأداء طروب يتدفق حيوية، ومقدرات فنية عالية، أميزها العزف المبهر والنغم الشجي الفوّار الذي يتدفق من (طمبوره) كالشلال.. فإذا كانت تلك بدايته، فكيف كاتت مسيرته؟ لقد أثرى الفقيد الراحل المكتبة الفنية بعشرات الأعمال البديعة المتنوعة، امتازت بتنويع في الألحان، وألحانه لاتخلو من (فلسفة) لم يكن يستسهل اللحن، كان فيلسوفاً، تخرج ألحانه مثل قصائد الفلاسفة، (خذ أغنية عشة وهي من مرحلته الفنية الأولى) و(أغنية دنية هواك الحالمة) من أغنيات مرحلته الفنية الوسطى) وغيرها العشرات من الأغنيات، كان يضع (جُملاً لحنية طويلة)، وفي مهارة فنية باهرة يتنقّل بك في فضاء اللحن دون أن يخرج أو يشطح أو يسرف في التنقل، أو يبعد النجعة، لتجده سرعان ماعاد بك إلى المبتدأ.. الفرق بينه والآخرين، أنّ ألحانه صعبة، ليست مستسهلة، لذلك نستطيع أن نقول، وبكل اطمئنان، إنّ سيف في معظم ألحانه، لاقبله لابعده، لن تجد فناناً يلتقي معه في ألحانه، أما الأداء الطروب، الذي تتدفق شلالات أنغامه، فقد كان ثمّة تشابه في ذلك بينه وصنوه، الفنان الراحل يسن عبدالعظيم، الذي يلتقي معه الفقيد سيف، في كونهما انتقلا من الدنيا وهما في فتوة الشباب وعنفوانه، وفي قمة مرحلة العطاء الفني، وكلاهما لم يتزوج، وكلاهما انتقل بسبب داء السرطان اللعين.. نسأل الله أن يرفع به درجاتهما في الآخرة، وفي مقام الشهداء بإذن الله وفضله ورحمته، وكلاهما يحصد محبة الملايين من المحبين والمخلصين لهما بالدعاء.
كان الراحل سيف يتمتع بذائقة فنية رفيعة، وملكة نقدية عالية، لذلك تجد كثير من المهتمين يجمعون على أنّه كان أفضل من يتحدث عن الفن وتحليل النصوص والالحان بلسان الناقد الحاذق.
رحم الله الفقيد المبدع سيف الذي بأصالته ومروءته وجمال طِباعه وحسن صفاته، وعذوبة ألحانه وروائع فنه الخالد، جعل رحيله المُر (يتجدد طعمو تاني) كما يبكي اللوعة في قصيدة كمال:
قلبي نزف دم عزلتو
وخلاص شيعت الأماني..
وليه كاس صداً شربتو
يتجدد طعمو تاني..
معاكم عمراً سفكتو..
عليهو أكيد كت جاني..
وعفيتلك صبرا صبرتو..
وعذاب دمعاتو التماني..
وأخاف الليل السهرتو..
يبوح بالسر الطواني..
وأبيّت فوق ليل سترتو..
وأباكي الفجر الأباني..
وهي قصيدة مليئة بالصور والاستعارات وكل أنواع البيان والبديع.. (حكاية العاصر جمرتو تحرقو قدر مايعاني) (مصيبة الخاطر الكسرتو جبيرتو السبع المثاني).
وكانت معظم أعماله بهذا المستوى الرفيع..
في قصيدة كمال ايضاً :
أدوني رأيكم في بلادي..
قولوا ماتتحيزوا..
حال الفراشات وادي وادي..
يبدو إنهم أجزوا..
ساعة الضفاف بالفرحة تبسم للغروب..
والنيل بعد يتحدى يستغفر يتوب..
جوف كل دارة.. السكر الجوّا اليدوب..
داك الوتر.. والدايرو فينا ينفّذوا..
ومن شعر الفيلسوف كمال ايضاً:
أمرقي تحت ستر ميلك..
بشيشي بشيشي نوارة..
وقدر ما إتوهنت خيلك..
تلاقي قلوبنا سيارة..
يا قمرة ضلام ليلك..
زمان الساقية كان أنّنت..
دموع الوردة تتقاطر..
وشفنا الشتلة إتربّت..
عليها الموية تتدافر..
وتتبخّر شرور ليلك..
فجُر.. تتلمّ شُمّارة
كذلك أغنية (سافر وابتعد)
لاخلّى عنوان للبعاد
لاحتى وصى على البلد..
ياحليلو.. سافر وابتعد..
بلقاكي في نخل الضريح..
مشحونة بالأفراح عُقَد..
وألقاكي في همسة وداد..
عد ما النهار حرّ وبرد..
يا أنّة القلب الجريح..
في ذمة الصبر النفَد..
كيف حالي أنا الشّاد الجياد..
قاصد سرابو الراح شرد..
ياحليلو سافر وابتعد..
(وهي من أغنيات سيف التي أعجب بها الفنان الكبير صديق أحمد وداوم على أدائها.
ومن نماذج أعماله الخالدة مع رفيق مسيرته الفنية (الشاعر الحبيّب)
الصباح بيجيك.. وتسبحي في ضياهو..
ويمشي ليل الماضي مهما يطول دجاهو..
عيشي عيشت الراضي بي قدرو وقضاهو..
الزمان لو قاسي
ما حيدوم قساهو..
الربيع يلقاكي
في قمة زهاهو
وزهرو من الفرحة غالبو يلم شفاهو
وهذه صور بديعة نادرة..
ومعظم أعمال سيف مع رفيقيه في هذه الرحلة الغنية (الحبيٍّب وكمال حسن). لكنه تغنى لشعراء افذاذ، مثل أحمد سليمان طه :
آهة غصبن عني بانت..
دمعة فوق خديك ترقرق..
كيف سنين لقيانا كانت..
وليه تجي الأيام تفرِّق..
وتغنى لحسن مالك:
لمّن نحن نتلاقى
ونبل الشوق..
ننسى الدنيا فرّاقة
ونروق ننعم..
درب الريد معاكي طويل..
والكون بيكي أمسى جميل..
انتي القمر لي فليل..
لمّ الليل علي أظلم.. (وهي من أغنيات سيف التي يرددها الفنان الكبير محمد النصري).
وتغنى للشاعر والفنان أيوب محمد الحاج (أمونة) :
ماداير غيبتك انتي
لأنها مُرّة وصعيبة
(وهي من أغنيات سيف التي أعجب بها الفنان الكبير صديق أحمد وداوم على أدائها)
وتغنى للشاعر الهدى حسن البشير :
غني ياطمبور..
ردد الألحان..
وتغنّى للفاتح إبراهيم بشير:
زولي البريدو خلاص رحل.
وأغنية:
عارفني ليك مشتاق..
تمشي وتغيب عنّي..
أنا حالي جمبك كيف
لامن تسوي فراق..
تمشي وتغيب عنّي.
وتغنى لعبدالعظيم الحسن:
مابنساك..
حبك في دمايا..
راجاك يامنير ظلماتي
يامقنع حجايا..
مابنساك..
وتغني لعبدالرحمن أبسير:
شتيلة منقة شايقية، التي أعجب بها صديقه الفنان عثمان عبدالعظيم وأصبح يرددها مع غيرها من أغنيات كثيرة لسيف.
وتغنى لحسن الضو أغنية تعالج مشكلة ثمن الاغتراب لتحسين الحال:
مابي الجيّة تب
راميلو وفوقي عيال..
مُحُمّد مابيرسل
وقاطع المرسال..
وعدد آخر من الشعراء.
أما من أبناء موطنه الصغير، فقد تغنى منذ بداية مسيرته الفنية لعدد من شعراء الأراك، في مقدمتهم صديقه من الأسرة العاقب أحمد علي موسى،
بعدد من الأغنيات أشهرها (ليمونة) :
ياليمونة..
وينو الليلة..
وينو شذاكي..
حالتك من عطش؟
وللا العليي مسّاكي؟
ومنهم محمد علي الفحيل وعثمان عبدالله سورج وعبدالله فتح الرحمن.
ألف رحمة ونور عليك سيف الأراك، وقد شهد لك أهل الأراك وأجمعوا على أنك دحضدت المثل العربي الشهير القائل: (زمّار الحي لايطرب) لكنك كنت تطربهم حد الارتواء، لكنهم ماشبعوا من صحبتك المحببة، ولا من ألحانك الطروبة ومعزوفاتك الخالدة، فقد كنت تشعل الأراك طرباً في كل حفل تقيمه، وهي القرية التي لاتطرب إلا لفنان حقيقي كما ظل يكرر الفنان الكبير صديق أحمد (الفنان تجيزه الأراك وتشهره الأراك).. وأنت تعلم سيف كم أحبك أهل الأراك وكم تيتم الفن عندهم بفقدك المقيم.. في يوم الحزن الأليم 14/4/2002م..!
دعوتي لكل من يقرأ هذا المقال أن يقرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات بنية أن تعال ختمة القرآن ويهدي ثوابها لروح الفقيد سيف فجميع من يعرفه، يشهدون له بحرصه على الصلاة وحسن الخلق.

اترك رد

error: Content is protected !!