دهاليز / علي مهدي

سبعينية المُشخِّصاتي سبعون عامًا مَشَت بنا.. ومَشَينا فيها

علي مهدى نوري

دهليز من حَشَاي لا كرّاس ولا رأس.. فيه من المِحنّة الكثير

ونظرت للخلف في اشتياقٍ للبدايات المُفعّمة بالآمال العراض.. فهل تحقّقت؟

عُدت يا سادتي هذه المرة للبقعة المُباركة، أحمل على ظهري، وبعض أطراف كتفي، وقبل حلول أول البارحة، التاسع والعشرين من مارس، سبعين عاماً، نعم سبعون سنة تجر الأخرى، وكنت قد مضيت معها وبها في أروقة، وبهو، وطريق، ومودة، وصالون، وباحة، ومسرح، وقاعة، وأستديو، وساحة، وحوش، تدخل فيه فيفضي إلى آخر أوسع، الأنوار فيه تتلألأ، مبهرات، تعكس ما في قلبك من فرح غامر بالوصول الى مكان كان في الحلم القديم، يوم مشيت حافي حالق، بين ماء في بياض السحاب، إذا نظرت السماء والشمس تتوسّطها، فيرتد إليك بصرك، فاليوم أنت موعود بنهاية هذا المشوار بين مدينة شجرة موحي بيك، أو شجرة (غردون)، أو كما أحب أن أقول، شجرة الإمام المهدي عليه السلام، كانت زراعة جدتي لأمي السيدة آمنة محمد علي صالح من (كابتوت) غير بعيد عنها (مراغة) ما بينهما مسافة يُشار إليها، والسيدة آمنة كانت فلاحة، تزرع وتربي الأغنام، منها لبن وروب، وجبن.
ونزرع (اللوبيا)، أوراقها إلى أغنامنا، وحَبها الأخضر لنا، أجمل بليلة، إذن الحال باسط، والدنيا بخيرها، نرشها بالزيت الحار، سمسم أصلي. وفي الشتاء، له معنى آخر. هي سيدة البيت والشارع والحي، تلك جدتي لأمي آمنة عليها الرحمة، وتلك الشجرة والتي سُميت بها المنطقة، القرية، المدينة، نعم فيها ومن طيبة أهلها كل إشارات القرية، ناس وأشجار، كانت غابة، وغربها بحر أبيض يجري نحو المُلتقى، وشرقها فضاء فسيح لم تبن المدن عنده ذاك زمن. دخلتها الكهرباء أولاً، ولها صفارات ثلاث، الأولى لدخول العمال، عمال الري المصري صباحاً باكراً، والثانية للإفطار، والثالثة موعد آخر، الثلج، نعم، قبل أكثر من خمسة وخمسين عامًا، تزيد، كُنت مع الصبيان أحمل كيسي وأمشي نحو ورش الري المصري، أحمل ثلج البيت. تلك المدينة القرية فيها عرفت أنّني من أهلي وأنا منهم، البديري الدهمشي الجابري، وسيدي ووالدي قدّس الله سُرَّة شهد خواتيم الدولة الوطنية قبل الأخيرة، المهدية، والدة الأمير محمد نور (نوري) السيد عبد الكريم، السيد فضل والسيد محمد جندي القوم بن جابر بن عبد الله. وبنيت له قبة تزار في جزيرة (بدين)، بن السيد نصر الدين، وقالوا قدم من اليمن وعاد إليها لما أكمل رسالته في نشر علوم الدين. هاجروا مثل أهلهم إلى غرب السودان، سكنوا كردفاناً، وتصاهروا، فأصبحت للبديرية أبواب فيها، كما أن أصلهم هناك عند انحناءات النيل باقٍ، وأسّسوا اول طريقة صوفية سودانية أسّسها سيدي قنديل كردفان القضب التام الولاية الشيخ إسماعيل بن عبد اللَّه.


ثم أهلي لأمي بيوتهم في (كابتوت ومَرّاغة) تحت، ومن كان له حقل الى جوار النيل، فتلك الأرض وصلها مع جده قابيل قبل نوح، ومن كان بيته فوق، فتلك منحة الحكومة، لما كانت تعطى ولا تبنى.
سبعون عامًا مشيتها بين مدن وأخرى، خاصة الخمسة وأربعين عاماً الأخيرة هذه.
في الربع الأول منها من بيت والدي في حي ود نوباوي إلى دار الإذاعة، الحوش الوسيع، أحمل أوراقاً فيها بعض كلمات، وكنت قد جئتها أول مرة مع فرقة مسرحية، بَعضُنَا طلاب مدرسة (أبو كدوك)، الوسطى، نهوى الفن ونعشق التمثيل، والفاضل سعيد والرواد الأوائل سادات الفنون، يجلسون تحت شجرة الإذاعة، تضئ الدنيا بإبداعاتهم وفنهم الراقي، ودخلت الإذاعة أول مرة، الأستديو فسيح، وعالي السقف، وكأنه ديوان بيتنا في ود نوباوي، عالي السقف، تطيل النظر الى تفاصيل (العرش)، فعرش والدي كان محبة أهله السادات الإسماعيلية، يوم نزور حي السيد المكي تلتمع الرايات، ثم صحبتني بعدها مدن العالم، التمعت أول مرة في مدريد إسبانيا، وبهو القصر القديم يرن ولا يئن من دفوف وأجراس، والضربة الواحدة من نوبة وأخرى تعيد (الأندلس) وما جاورها للدولة القديمة قبل ضياع الملك بين يدي غنج الملوك.


تلك الرايات يوم ذهبت الى مسرح (لماما) في (نيويورك) وقبلها (باريس) (واشتودغارد)، لم تخرج من مسرح قاعة الصداقة، يوم كانت عروضي المسرحية تستمر لسنوات (هو وهي) وغيرها، لا قدمت من معسكرات النازحين في (أبو شوك، وكلمة، والسريف)، والميادين والأسواق في دارفور الكبرى.
وأصلها الفكرة خرجت من معسكر الأطفال المجندين في (ملكال) القديمة، بنيت فيها أول قرية الأطفال sos، في جنوب السودان وقتها وأضحت واحدة الآن من عواصم دولة جنوب السودان لي فيها بيت يُزار ويُسكن.
وأدخلتني بعدها فنون الأداء التمثيلية للوظيفة العامة، ولم تُغيِّر رغبتي في كوني مُشخِّصاتي محترف.
وتخرجت أحمل شهادتي وكنت أول خريج فن أدائي يُعيّن في الدرجة (Q)، وعملت وذهبت رحلتي الأولى إلى مدينة (كان) أشهد مهرجانها السينمائي الدولي والشاطئ (اللازوردي) يغني لي، ومشيت على السجادة الحمراء، أمامي الأسماء الكبيرة. انتظرت مرة من الثالثة ظهرًا في صف سينما الوطنية أم درمان لأشهد فيلماً للنجمة الإيطالية (صوفيا لورين)، كان ذاك وعمري ينقص من السبعين التي احتفي بها واحتفاء بها الأحباب قبلي، فلهم ودي ويعرفون صدقة، عمري كان بعد العشرين بقليل، ودخلت بعدها (باريس) أول مرة قبل خمسة واربعين عاماً. احتفى الأحباب في الفجيرة بذاك التاريخ، يوم قدمت أوراق انضمام السودان للهيئة الدولية للمسرح ITI، والمجلس الدولي للموسيقى IMC، يونيو عام ١٩٧٧، نعم أحالوا جانباً من اجتماع المجلس التنفيذي الى إعادة الترحيب بالعضو الأقدم، مشيت مع الهيئة الأهم في عوالم الفنون سنوات، بين عضوين في المؤتمر العام واللجان المتخصصة والمجلس التنفيذي ومجلس الإدارة، ثم نائب الرئيس ونائبًا أول وأمينًا عامًا لدورتين، يمشون معي بالخواتيم إن شاء الودود.


كنت أنوي أن يذهب الدهليز نحو التواريخ، الأرقام فيها السبعون، ولكن الحكايات مديدة ومترعة بحنين وغير ذلك، وقلت لنحتفي بعروضي فيها مدن المعمور، بلا تعداد، ثم بالورش والمُحاضرات أو اللقاءات وغيرها من الأنشطة، ثم نظرت أتدبر فيها السبعين عاماً. فقلت أو كما اقترح الأحباب أن نكتب عنها في أوقات أخرى، خاصة وإني أعكف على مراجعة ما كتبت في سنواتي الماضيات، أجمعها الدهاليز علها تفضي لكتاب وآخر ثم آخر ممكن.


أحبائي نعم أن مشاوير السنوات أجمل ما فيها أنني أكتب من مكتبي في بيت مهدي، كلما أخذوا من كتبي التي أنزلتها من المكتبة أعادوها، أعيد بعضها، وفي الخاطر أن تذهب مكتبتي إلى مكان يُعاد فيه الاستفادة منها، وقد جمعتها لسنوات في ترحالي المعهود.

سلمتوا… وكل عام وأنتم بخير
ورمضان كريم،،،

اترك رد

error: Content is protected !!