ليمانيات / د. إدريس ليمان

حَبَّة وعى عند اللزوم .. !!

أكادُ أجزِمُ مُوقِنَاً أنَّ جيل الستينات كان مولعاً بالقراءة ومراسلة المجلات وبعض البرامج الإذاعية لاسيما ( ندوة المستمعين ) من إذاعة لندن ومقدمها الأشهر رشاد رمضان .. لأن الراديو وإصدارات دار الهلال وغيرهما كانت المصادر الرئيسية لتلقى المعارف .. وأذكر أننى قرأت فى تلك الفترة من أواخر السبعينات ضمن ما قراتُ عن غرق التايتانيك فى مجلة المختار ( النسخة العربية من مجلة ريدرز دايجست ) وظلت تفاصيل تلك المقالة راسخة فى ذاكرتى إلى أن عبثت بها بإقتدار أنامل مخرج الفيلم الذى يحمل ذات الإسم وفق رؤيته ووفق متطلبات التشويق حيث بدت لنا شخصية القبطان وكأنه شخصٌ ودودٌ مع الناس يتَبَسَّط فى الحديث معهم مُبدِياً حِرصه الشديد عليهم وأظهره بمظهر الواثقُ من نفسه حدَّ الغرور والواثقُ من سفينته حدَّ التحدى ، كأنَّه يتعمد إظهار ثقة المسافرين المفرطة به فى الوقت الذى كانت فيه جبال الجليد الشامخة تَتَرَصَّد المارد العملاق وتُعِد له ( شَرَك أم زريدوا ) وتتوعده بالغرق .. والقائد المسكين كان واقعاً تحت تأثير الغرور الذى أنساه واجباته ومسؤولياته فأغفل قراءة خرائط بحر الظلمات ظَنَّاً منه أن صانع المارد أعطاه صكّاً من السلامة ولكنه أدرك وبعد فوات الأوان أن مارده الجبار الذى لا يُقهر قد إتجه نحو جبل الجليد الضخم الذى أخفت مياه المحيط معظم كتلته الصلبة ، وحينها أدرك المسكين أن الأمر قد حُسم ونسى الركاب تفاوت طبقاتهم وفوارقهم المجتمعية فالبحر سيُغرق الجميع والموت هو الموت لا يميز بين غنى وفقير ..!! وفى نهاية الأمر مات من مات ونجا من نجا وجلس المغرور فى قمرة قيادته ممسكاً بدفة سفينته الغارقة فى مشهد يختزل عجز القائد وواصلت الأوركسترا عزف إلياذة الموت على أصوات الموج .. تماماً تماماً كحال الهالك وهو يقود قطيعه من عُربان الشتات نحو المحرقة فى أرض السودان التى أودت بحياة الآلاف من الحمقى وفتح على نفسه باباً من الجحيم أعياه سَدَّه وأرسل بغبائه وجشعه سهماً أعجزه رَدِّه .. ولم يكن يدرى أخزاه الله حيَّاً وميتاً أن للقيادة والسيادة (التى لا يستحقها لولا الغفلة وفساد الرأى ) قوانينها كما للبحر قوانينه .. وكان يظن نفسه لخطأٍ فى التدبير وسوءٍ فى التقدير رُبَّاناً بحق لسفينةٍ لا تُبالى بالرياح حيث لم تكن لديه الدُربَة والأهلية للقيادة لينتبه للمخاطر الكامنة أو ليقرأ تلك المؤشرات بأن هنالك هلاك حتمى ينتظره وقطيعه إن أقدم على أية حماقة إستناداً على قوته التى لم تُغنيه ..!! فهلك وأهلَكْ وإنهزم جمعهم على يد القوات المسلحة والقوات المشتركة الأكثر تنظيماً وإنضباطاً وإلتزاماً بالقانون الدولى الإنسانى والتى قامت بعمل بطولى عظيم جداً فى دارفور سيخلده التاريخ وسيكون له ما بعده خيراً وبركة على مستوى الدولة السودانية .. ورغم هزيمته فى المعركة التى بدأت تلوح فى الأُفق إلإَّ أنه لَمْ يَكُفّ عن حماقاته الفاشلة فهاهى مسَيَّراته تعمل على تدمير البنية التحتية وإستهداف الأعيان المدنية لاسيما قطاع الطاقة التى يبدوا أن لديه إحداثيات محطاتها فى كل المدن بمعاونة بعض السواعد التى كانت الدولة السودانية تدخرها لمعركة الكرامة الثانية للتنمية وإعادة الإعمار ولكنها تحولت للأسف الشديد لتكون معاول للهدم لا للبناء بمحاولاتها المستميتة لشحن العواطف بالأحقاد وسوق البلاد إلى مالا تُحمد عُقباه .. إلاَّ أنَّ هنالك خطاباً شبابياً مسئولاً وواعياً لمتطلبات المرحلة إنتظم المشهد وبدأ يتنبه لخطورة المؤامرة ويحتل مساحة واسعة فى خريطة إهتمامات الشارع السودانى الذى إزداد وعيه بنشاط الشباب الوطنى الصادق الذى كان بمثابة الترياق للخطاب العنصرى الهدَّام ولايزال .. هذا الشباب الذى بات يسوَّى الصفوف بين جميع أهل السودان الكتف بالكتف والقدم مع القدم حتى لا تبقى بينهما فُرجة لشيطان التفرقة وزراعة الفتنة .. هذا الشباب الناشط فى الوسائط والذى نراه يعمل على غرس فسيلة الوعى فى تُربة الوطن لتنمو شجرة المواطنة الحقَّة باسقةً فى سماء الوعى المجتمعى الناضج ، ولتزدان الأغصان بخضرتها ولتينع الثمار الطيبة لقاطفيها ولتمتد عروقها فى تأريخ وجغرافية الماضى الجميل.. كل ذلك هو ما يجعلنا نُفرِط فى التفاؤل بعد أن كدنا نفقد الأمل فى مستقبل بلادنا .. ولا عزاء للمثبطين والمتاجرين بالوهم المراهنين على العدم من خلال الإرجاف فى الوسائط وإختلاق الشائعات الكاذبة التى لن توقف عجلة الإنتصارات التى بدأت فى الإنطلاق بقوة ليس على المليشيا المجرمة وأعوانها فحسب بل على كل القُبح السياسى والأخلاقى والتنفيذى والمجتمعى ، وأن بلادنا مُقبلة على مرحلة إزدهار تنموى بعد الحرب سيساهم فيه الجميع ويستفيد منه الجميع إن صدقت نوايا الحكام والمحكومين .. وأن تحقيق هذا الأمر يتطلب وحدة وطنية حقيقية يستشعرها الجميع واقعاً ملموساً لتتكامل جهود قبطاننا وطاقمه وتبحر سفينة وطننا الغالى نحو بر الأمان .. ولكل ماتقدم يجب أن تختلف مرحلة مابعد الحرب كثيراً عمَّا قبلها ، فكل ما تحتاجه بلادنا فى الغد القريب قرارات صارمة من الدولة وإعادة النظر بحكمة وبقوة ومراجعة جميع الملفات السياسية والأمنية والإجتماعية والإقتصادية فالجميع يحتاجون لأن يشعروا بوجود سلطة حقيقية وصارمة تحكمهم وتُنَفِّذ مايجب أن يكون دون تَردُّد ولا تَخوّف من مآلاته ، ويجب على من يرسوا عليه مزاد كرسى السلطة والحكم أن ينظر إلى جيرانه فى المحيط الإقليمى وإلى من يدّعى صداقته من المجتمع الدولى نظرة شك حتى يميز الخبيث من الطيب ، ويجب أن تكون تلك النظرة هى رفيقته حتى موعد إنتهاء ولايته ، فلكم كانت بلادنا ضحية أصدقائها وجيرانها حسبما تقول به حوادث التأريخ ، كما أنَّ المرحلة القادمة تقتضى تجميل المشهد المختّل بإضافة المسحة الأخلاقية ورفع القواعد من البناء الإسترتيجى للبلاد وإنتاج مفهوم الدولة الخادمة بمعنى أن تُعيد الدولة النظر إلى نفسها وإلى علاقتها بالمواطن لتكون جهازاً تنفيذياً خادماً له وتسعى فى إحتياجاته الأساسية من تنمية وتعليم وتعمير وصحة وإزدهار وليست جهازاً لإنتاج الأزمات بالتنافس غير الأخلاقى للسلطة والحكم أو ستزداد بلادنا خراباً ودماراً على ما هى عليه إن أوكِلَ أمرها لمَنْ شَبَّ على التَمَلُّق والتَسَول السياسى بالمواقف الإماء .. وليعلم حكامنا أن أهل السودان لن يغفروا لهم غفلتهم إن تكررت فالظروف القاسية التى مرّوا بها والإذلال والمهانة التى تعرضوا لها تتطلب إستعمال القوة المشروعة لإعادة هيبة الدولة وإعلاء سيادة القانون وتطبيقه على الجميع دون إستثناء ومعاقبة كل من يخالف النظام القانونى للدولة بقوة وعدالة دون تمييز .. وقد كان الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان يقول لوزرائه وولاة الأمصار فيما يقول : إنَّ هذا الأمر لا يَصلُحُ له إلاَّ سيفٌ بتَّار ورجلٌ مِغوار ويَدٌ ممدودة بالكرم والسخاء .. فبلادنا ومنذ إستغلالها ظلَّت تعانى من حماقات الحكومات المتعاقبة سواءً كانت منتخبة أو شمولية. أو إنتقالية ، وظلّلت تتجرع مرارات الخيبة من قراراتها ومواقفها .. فالمشهد البعدى لمعركة الكرامة يتطلب نقاش جميع القضايا الوطنية الجوهرية مع كافة النّخب الشبابية الوطنية وبمشاركة قادة الفكر وأصحاب الرأى والرؤى من فقهاء القانون وخبراء التنمية ونشطاء المجتمع المدنى من عقلاء وحكماء بلادى حتى يعلم شيطان العرب وعُربانه وغِربانِهِ أن بلادنا عصيّة على الإحتراق والإختراق وإن تسلَّط عليها الأعداء وتكالب عليها البلاء من كل جهات الدنيا .
حفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .
✍🏼 لواء شرطة (م) :
د . إدريس عبدالله ليمان
الثلاثاء ٢١ يناير ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!