ربما يكون عنوان المقال صادماً أو مضللاً شيئاً ما.. لكن السؤال المحير ما الهاجس الذي أرّق الراحل محمد إبراهيم نُقد سكرتير الحزب الشيوعي السوداني ليخصص واحداً من مؤلفاته القليلة عن الرق في السودان ويبذل فيه جهداً استثنائياً في البحث والتنقيب. الكتاب عبارة عن تجميع مضنٍ عن موضوعٍ مهمل وحساس ومسكوت عنه سنين طويلة. هذه الجريمة الإنسانية الكبرى لم يسلم منها العالم كله. لست مؤرخاً ولا عالماً ولا دارساً لعلم الاجتماع فأنا مجرد صحفي يضيئ بعض نقاط العتمة في المجتمع. تخيلوا رجلاً في قامةِ نقد برغم ما اعترى مسيرتة السياسية بتدافع متعدد بين الاختباء والظهور يكون أحد المؤلفات القليلة في مسيرته بعيداً عن مجاله الذي كرس له حياته.
لو تخيلنا أن الراحل نقد اهتم بهذا الموضوع اهتماماً استثنائياً في زحمة نضاله الثوري فما هي الأسئلة الملحة التي كانت في ذهنة حتى يتناول هذا الموضوع. من الأسئلة التي تنمو مع المراقب للمشهد السوداني لماذا لا تتفق النخبة السودانية علي مسائل الحد الأدنى التي تلم الممسكات الوطنية للبلد، ومن أين أتينا بكل تلك الكراهية والتشفي حتى صار التوافق على أن نكون أو لا نكون أمراً مستحيلاً بين القوى السياسية وصفة بارزة للنخبة.
سيأتي يوم ينقب فيه دارسو علم الإجتماع سلوكيات الآثار الحميدة أو السيئة من تلك الحقبة المظلمة من تاريخ السودان وكما عرفتُ أن (الرق) شمل كل مناطق السودان وأن اللون الأسمر القاتم (الأسود) ساد في نهايات فترة الرق مع الرجل الأبيض. مدعاة هذه الادعاءات ما يحدث الآن من إستعلاء شديد وعدم توافق علي الحد الأدنى من الخطوط الخضراء والحمراء الوطنية، ثم ارتفاع منسوب الكراهية والتشفي بين أبناء الوطن الواحد برغم أن الثورة الاخيرة تجلى فيها الإجماع علي إسقاط الإنقاذ (من طيف واسع من فئات المجتمع السوداني وقواه السياسة حتي الإسلاميين منهم). عبرت دول عديدة هذا المخاض العسير بعد حروب عنيفة ومجازر طاحنة وموت (بالأطنان) مما يحتم إستخلاص الدروس والعبر لتجاوز مثل تلك المآسي والإحن.
(أحمد) شاب عشريني ممتليء بالوهج الثوري ويدافع عن التظاهرات والمتاريس وما لاينفع الناس في الإنتاج الذي يتوقف مع حركة الناس اليومية، ذكر لي قصة جديرة بالتأمل توضح عورات الفرد السوداني بالعمل الجمعي فيما حكى أن حيّهم موبوء بالسارقين والحرامية فاتفق أهل الحي أن يزيدوا إناراته والمناطق المظلمة منه فاجتمع الناس لتنفيذ ذلك، لم يبدأ الإجتماع إلا لينتهي بخلاف عظيم حول من هو الشخص الذي يجمع المال وماهي القيمة المناسبة لهذا الفعل وماهو نوع الإنارة ومن يشترك في هذا العمل داخل الحي.. هل يشركون (الكيزان) فيه أم أن القوى الثورية فقط. افترق الناس علي خلاف عظيم من غير أن يصلوا إلى نتيجة تحل مشكلتهم الآنية. هذا مثال بسيط جداً للحالة السودانية للعمل الجمعي حيث نجد الأفراد علي مستواهم الخاص ممتازون إلى درجة عالية من العلم والأخلاق ولكنهم حين يعملون عملاً جماعياً لصالح قضية ما يفترقون افتراقاً واضحاً يعبر عن شتات فاضح لأفكارهم.
لا أستطيع الجزم أو حتى الإحتمال أن هذه السلوكيات التي يتمتع بها السودانيون لها علاقة بثقافة الرق القديمة التي عفى عليها الزمن فهذه كما ذكرت تحتاج إلى بحث ودرّس وتنقيب من الدارسين في هذه المجالات من العلوم الانسانية لكن من الواضح جداً أن هنالك فشلاً ذريعاً في العمل الجماعي، ثم اذدراء البعض بمجهودات البعض الآخر مما يجعل الأمر يقع في حيز الحسد. هذا التعميم مخل جداً فكما ذكرنا أن تلك الفترة المعتمة في تاريخ السودان تحتاج إلي رفع الغطاء واستشراف المستقبل حتى نستطيع أن نخطو خطوات أولى في العمل الجماعي رغم ثقافة النفير التي نجدها في الريف السوداني. ذكر شاب فرنسي قدم مع أسرة سودانية صديقة لأسرته أن منازل بعض السودانيين من الداخل مثل منازل المليارديرات الفرنسيين حيث توجد الحدائق وأحواض السباحة والصالونات الكبيرة ذات النمارق المصفوفة ولكن الشارع حدث ولا حرج من تراكم الأوساخ والإهمال المتعمد.
من أحاديث متفرقة لبعض دارسي علم الإجتماع أن ظاهرة الختان ترتبط بثقافة الرق وأيضاً ثقب الأذن كذلك..تلك الأحاديث تحتاج لبحث مضنٍ حتى يصبح الأمر علمياً. كل المقدمات هذه فجرها عدم الوفاق على المستوى السياسي والإجتماعي حيث يحيطنا الفشل في الإتفاق علي قواعد تسوسنا وعلي عمل نافع نقوم به في شكل جماعي. لا أجد وصفة تخرجنا من مأزقنا التاريخي هذا لكن الإنسداد الشديد في الأفق السياسي الآن، والحالة الإقتصادية المذرية والصعبة للغاية ربما تأهلان الإنسان السوداني لإيجاد مخرج غير الحرب واللجوء الجماعي في أنحاء الدنيا فإن أهل السودان لايحتملون حالتي المسغبة والشتات.