جاء فى الأثر أنه حينما قَدِمَ أصيل الغفارى مهاجراً من مكة إلى المدينة سأله النبى صلى الله عليه وسلم فقال له : كيف عَهِدتَ مكة ؟ قال والله عهدتها وقد أخصَبَ جنابها وأبيَّضَتْ بطحاؤها وأغدق أذخرها وأسلت ثمامها وأشَّ سلمها .. فقال ويهاً يا أصيل دع القلوب تقر قرارها ..!!
وهاهو الإنسان السودانى قد أُخرِجَ من وطنه قسراً وهو يتمزق بين مطرقة الواقع المرير وبين سندان الهروب واللجوء إلى المجهول بفعل المليشيا المجرمة تاركاً رُفات آبائه وأجداده تحرس روح الوطن وذكرياته ليصبح رقماً فى سجلات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين ( يعيش به وبه يتلقى المعونة ) ويُصبح واحداً من آلاف الأرقام العابرة للدول لجوءًا عندما تنقل الأخبار ما يتعرض له اللاجئين بعد أن كان إسماً فخيماً بين أهله وملكاً متوجاً فى مُلكه يستضيف اللاجئين فى أرضه من كل دول الجوار التى من حوله ..!! فأضحت كل أمنياته أن يفيق من هذا الكابوس ويجد نفسه فى حياته التى ألفها بين أهله وبنيه وعشيرته التى تؤويه ، وبين أقرانه ومراتع صباه ، وفى عمله وحواشته ومدرسته .. فهذا الإقتلاع القسرى من الوطن قد خلق واقعاً جديداً مؤلماً لم يعهده أهل السودان فى ماضيهم القريب ولا البعيد .. !! فكم هى الدنيا حلوة خضرة عندما كانوا يعيشون فيها بأمان وكم هى موحشة وكئيبة عندما فقدوا فيها الأمان وإستَعَرَتْ فيها نار الحرب وإستَحَرَّ فيها القتل ..!! وكم هو مؤلم أن تصبح المدارس المتهالكة التى تفتقد للخدمات أو الخيم التى لا تقى برداً ولا حَرَّاً هى مسكنهم ومأواهم ..!!
إنَّ غياب الضمير الإنسانى وموت المبدأ الأخلاقى ويقظة التوحش والإفتراس فى قلب المليشيا التى لاقلب لها هو الذى تسبب فى الأوجاع والآلام لأهل بلادى الكرماء فى الوقت ينعم فيه المعتدى ( وأم قرونه ) بما تم نهبه من أموالٍ جُمِعتْ بشقاء العمر كَدَّاً وإجتهاداً وإغتراباً و تجارةً أو بمكافآت نهاية الخدمة التى لا تُغنى ولا تُفقِر لمن أفنى عمره عملاً بالمؤسسات العامة أو الخاصة ..!! والأكثر إيلاماً من كل ذلك أن أهل السودان الذين عُرفوا بكرم الضيافة وحسن الإستضافة لمئات الآلاف من اللاجئين ممن تقطَّعت آمالهم وتعطَّلت حياتهم لعقودٍ طويلة ففتحوا لهم قلوبهم وبيوتهم وآووهم ونصروهم وإقتسموا معهم اللقمة رغم شّحَّ الموارد للمجتمعات المستضيفة نجد أنً المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لم ترد الجميل للسودان الذى كان يُعدُّ المانح الأكبر فى الأسرة الدولية كسلوكٍ راسخ تُبديه الدولة تجاه اللاجئين إحساناً للجار ورعايةً للجوار ، وعقيدة كانت تعتقدها دون منٍّ ولا أذىً ، فأهملت المفوضية إلتزاماتها الأساسية تجاه هذه الأزمة الإستثنائية ، ولم تعمل على توفير الحماية والمساعدة الإنسانية كما ينبغى ، متعللة كما العهد بها بوجود تحديَّات تمويلية من المانحين وعجزٍ فى الميزانية وفى الموارد رغم أنّه عليها وعلى المجتمع الدولى الذى تمثله إلتزامات أخلاقية وقانونية تجاههم .
فكل الذى نأمله ونرجوه هو أن تراجع الدولة السودانية ممثلة فى وزارة الداخلية ومعتمدية اللاجئين مستقبلاً سياسة الباب المفتوح التى كانت تنتهجها وهى تتعامل مع اللاجئين بكرمٍ لا يستحقه المجتمع الدولى خصماً على أمنها القومى ومواردها الإقتصادية الشحيحة ، وأن تكون هنالك نِدِيَّة فى التعامل ، وتقاسماً عادلاً للأعباء والمسئوليات بينها وبين المانحين من الأسرة الدولية لأن واقعنا الإقليمى يشير إلى أن قضايا اللجوء ستظل باقية تالدة ونحن نرى الأزمات والصراعات التى يمكن أن تؤدى إلى النزوح واللجوء من حولنا حيَّة تفتقر إلى الحلول السياسية وعدم القدرة على صنع السلام فى المنطقة بأكملها .. فالعلاقة مع المجتمع الدولى يجيب أن تَغلُبُ عليها المصالح لا أن تطغى عليها العواطف التى تُعَدُّ سذاجةً فى العُرف الدولى أو هكذا يبدوا لى الأمر .. !!
حفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .
الثلاثاء ١٢ نوفمبر ٢٠٢٤م