الرواية الأولى

نروي لتعرف

فيما أرى / عادل الباز

الفاشر… ستالينغراد إفريقيا

عادل الباز



1
لوقت طويل كنت شغوفًا بالروايات التي تؤرخ للحرب العالمية في نسختيها الأولى والثانية، وخاصة تلك التي أبدع فيها الكتّاب السوفيت، وهي الروايات التي كشفت زيف الحضارة الأوروبية و إفلاسها الأخلاقي. من تلك الروايات التي أسرتني “الثلج المحترق”، وبعدها الجزء الثاني من ذات الرواية “الحياة والمصير” للصحفي والروائي السوفيتي فاسيلي غروسمان، التي تتركز أحداثها حول معركة ستالينغراد في ذروتها (شتاء 1942–1943)، وصراع الإنسان مع الأنظمة الشمولية، سواء النازية أو الستالينية. لقد أفلح فاسيلي في مقارنة الشر السياسي بين النازية والستالينية.
2
تذكرت تلك الرواية وأنا أتابع صمود مدينة الفاشر، صمودًا بطوليًا مدهشًا، صمدت تلك المدينة وهي بلا ماء ولا غذاء ولا تموين، بسبب حصار جنجويدي نازي مستمر لمدة تجاوزت العامين. رواية “الثلج المحترق” التي أرخت لصمود
مدينة ستالينغراد على ضفة نهر الفولغا في الاتحاد السوفيتي القديم تماما كما تصمد اليوم الفاشر ولها قصة تنتظر من يرويها؛ قصة صمود أسطوري في وجه هجمات البرابرة الهمج الجدد. رحم الله الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجازي الذي وصف الجنجويد (الهمج) قبل زمانهم بوصف دقيق:
همج رمت بهم الصحاري جنة المأوى
تهر كلابهم فيها وتجار في المدى قطعانهم
يمشون في سحب الجراد
كأن وجوههم الغربان
وأعينهم لذوبان
وأرجلهم لثيران
يدوسون البلاد
ويزرعون خرابهم في كل واد.
3
كما كانت ستالينغراد إبان الحرب العالمية الثانية أهم مسرح من مسارح العمليات ورمزًا للصمود، مثلت الفاشر اليوم أهم مسارح الصراع وأكثرها رمزية. الفاشر، وبإذن الله، هي من ستغير وجه السودان والحرب معًا، تمامًا كما غيرت ستالينغراد أوروبا للأبد، ولذا تستحق وصفها بـ”ستالينغراد إفريقيا”.
تشبيه الفاشر بستالينغراد ليس مجرد توصيف إعلامي، بل يعكس أوجه شبه عميقة في الجغرافيا العسكرية، والبعد المعنوي، وأهمية الصمود، كما سنرى.
وكما كانت ستالينغراد محط أنظار الإعلام والصحافة العالمية آنذاك، تتابعها العواصم وتكتب عنها كبريات الصحف يومًا بيوم، فإن الفاشر اليوم تستحق أن تكون في قلب المشهد الإعلامي الدولي. لكن المأساة أن العالم يكتفي بتقارير باردة، وكأن الحصار لا يعادل في فداحته ما جرى على ضفاف الفولغا. إن كسر هذا التعتيم الإعلامي واجب، لأن صمود الفاشر ليس حدثًا محليًا، بل فصل من فصول الصراع الإنساني ضد الهمجية في القرن الحادي والعشرين.
4
بدأت معركة ستالينغراد (حاليًا فولغوغراد على نهر الفولغا) في 17 يوليو 1942، واستمرت حتى 2 فبراير 1943، وهي مدينة تقع في موقع استراتيجي جنوب غرب روسيا، والسيطرة عليها كانت ستمنح ألمانيا اليد العليا في الحرب.
بدأ حصار الفاشر في 13 أبريل 2024، عندما شنت المليشيات هجومًا واسعًا أحكمت به الطوق حول الفاشر وقطعت طرق الإمداد عنها. وبدأت أولى المعارك للسيطرة عليها في 15–20 أبريل 2024، وبلغت حتى الآن 227 معركة خلال عامين ونصف.
5
الفاشر تمثل اليوم عقدة استراتيجية في غرب السودان؛ فهي مركز إمداد واتصال رئيسي بين شمال وغرب دارفور، وصمودها يعزز تأمين العمق السوداني غربًا وشمالًا. معركة ستالينغراد تحولت من صراع على مدينة إلى رمز للصمود السوفيتي أمام آلة الحرب النازية، ما رفع الروح المعنوية وأعطى بعدًا نفسيًا للانتصار. انتصرت ستالينغراد حين حمل أهلها كلهم السلاح ونقلوا المؤن على ظهورهم واشتغلوا بتأمين الغذاء والدواء للجنود أثناء المعركة.
الفاشر بدورها أصبحت رمزًا لصمود الجيش السوداني والقوات المشتركة أمام حصار خانق وهجمات متصلة، وتحولت المدينة إلى عنوان لمعركة إرادة تتجاوز الجغرافيا لتهبنا معنى جديدًا للصمود والمقاومة في أشد اللحظات حرجًا وقتامة. الفاشر ستنتصر اليوم لأن نسائها وشبابها يقاتلون بجانب الجيش والمشتركة ويتحملون الحصار والجوع ويأكلون الامباز ولا يستسلمون.
ستالينغراد شهدت حصارًا دام 72 يومًا فقط، أما الفاشر فتواجه واقعًا أشد قسوة، إذ حوصرت 840 يومًا حتى الآن. وبينما تمتعت ستالينغراد بمزية الإمداد المتواصل عبر نهر الفولغا، أُغلقت كل طرق الإمداد للفاشر منذ مايو 2024، وحُرمت المدينة من الماء والدواء، وأكثر من 800 ألف يعيشون في ظروف إنسانية خطيرة انعدمت فيها كل سبل الحياة. تقارير المنظمات الإنسانية تتحدث عن نقص حاد في الغذاء وصل إلى أن أكثر من 70% من السكان يعتمدون على وجبة واحدة في اليوم، ونصف الأطفال يعانون من سوء التغذية الحاد. المستشفيات الميدانية تعمل بلا أدوية، والمياه الصالحة للشرب تكاد تنعدم. إحدى الأمهات في فيديو قالت وهي تحاول تهدئة طفلها الجائع: “نحن نعيش على الأمل… والأمل صار قوتنا اليومي”.
تًرى كيف صمدت هذه المدينة حتى الآن ولماذا؟ إن أجمل إجابة على السؤال جاءت من خلال فيديو شاهدته أمس لمواطنة من الفاشر حين قالت: “فاشر السلطان كانت ترسل الكسوة لبيت الله الحرام، ورب ذاك البيت هو الذي يطعمها الان من الجوع ويؤمنها من الخوف، ولذا صمدت”. ياااا سلام ونعم بالله.
6
انتصار السوفيت في معركة ستالينغراد كان نقطة قلبت موازين القوى لصالحهم، وأطلقت سلسلة من الانتصارات اللاحقة. الفاشر قد تلعب دورًا مشابهًا؛ إذ سيشكل صمودها اليوم وانتصارها غدا بإذن الله نقطة ارتكاز لاستعادة كل دارفور وتعافى كل السودان ، ولذا فتشبيهها بـ”ستالينغراد إفريقيا” ليس مبالغة، بل قراءة في أوجه التشابه بين معركتين شكلتا نقطة فاصلة في تاريخهما. ففي كلتيهما، تتجاوز أهمية المعركة حدود القتال العسكري لتصبح معركة إرادة وصمود، حيث يقف مصير الحرب على بوابات مدينة تحولت إلى رمز.
7
أهم شخصية أسرتني وكان لها تأثير واضح في معركة ستالينغراد هي القناصة لودميلا بافيلتشينكو التي ارتبطت ببطولات القناصات السوفيتيات. وهي واحدة من أشهر القناصات في التاريخ، حققت 309 إصابات مؤكدة.
ذكرتني هذه الشخصية بالطبيبة هنادي النور الدارفورية من الفاشر، التي مثلت نموذجًا مشرفًا للتضحية والإنسانية؛ قدمت العلاج، الغذاء، الحماية، بل وأظهرت شجاعة نادرة بالدفاع عن المخيم بمنزل الطوارئ. هنادي ليست طبيبة فحسب، بل مقاتلة دافعت عن معسكر زمزم ومرضاها بالسكين حتى لُقبت بـ”القاضية بالسكين”، بل هى رمز للصمود سيخلده التاريخ الإنساني، وسيتخذها السودانيون رمزًا للبطولة والفداء. ولا شك عندي أن الرواية التي ستكتب حول دورها البطولي في معسكر زمزم ستكتب بأحرف من نور، وستستحق كل الجوائز الأدبية الرفيعة. رحم الله هنادي، رمز صمود أهلنا في الفاشر المنصورة بإذن الله.
بالأمس، وفي كردفان، قال الرئيس البرهان وهو يزور ويحشد المتحركات المتقدمة: “ما عندنا كلام كثير… نلتقي في فاشر السلطان”. هكذا أصبحت الفاشر العنوان، عنوان النصر المبين. ذكرتني عبارت الرئيس بعبارة شهيرة كانت ملهمة للجنود السوفيت في معركة ستالينغراد: “لا خطوة إلى الوراء”. وبالفعل خاض السوفيت حربهم من زقاق لزقاق حتى انتصروا على العدو ، كما سننتصر بإذن الله على العدو النازي الجنجويدي الجديد.
الفاشر اليوم لا تدافع عن نفسها فحسب، بل عن فكرة أن إرادة الشعوب قادرة على كسر أكثر الحصارات قسوة. وكما أن انتصار ستالينغراد لم يكن نهاية معركة فقط، بل بداية مرحلة جديدة في تاريخ أوروبا، فإن الفاشر حين تنتصر، بإذن الله، ستكتب في سجل التاريخ كبوصلة أمل للأجيال القادمة، تقول لهم: “هنا صمدت مدينة، فصنع شعبها المستقبل”.

اترك رد

error: Content is protected !!