الرأي

“الرواية الأولى” تعيد نشر رؤية “د.عبدالرحمن الغالي ” لوقف الحرب وإدارة الحوار الشامل

الدكتور عبدالرحمن الغالي

بسم الله الرحمن الرحيم
(1) (إِنَّمَا یَسۡتَجِیبُ ٱلَّذِینَ یَسۡمَعُونَۘ)
(2) (خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ)

(3) مقدمة في فقه الأولويات وضرورة التنازل:
قبل الحرب بأيام زارتني قيادات من حزب الأمة وكنت قلقاً جداً من انزلاق البلاد للحرب.
قلت لهم أنا أرى أن البلاد تسير مسرعةً نحو الحرب، وأنه يجب أن تغير القوى السياسية من الأولويات لمنع هذا السيناريو.
وقلت لهم بالنسبة لي فإن الأولويات هي أربع وبالترتيب التالي:

  • ألا تنزلق البلاد إلى حرب أهلية.
  • ألا يحدث تدخل أجنبي في البلاد يطيح باستقلالها.
  • ألا ينفصل إقليم من أقاليم السودان.
  • أن نحقق الحكم المدني ونبطل انقلاب 25 أكتوبر سلمياً.
    وعليه أرى أن يتم فتح الاتفاق الإطاري ويسمح للكتلة الديمقراطية وغيرها بالتوقيع والمشاركة فيه، فقد قبلتم من هم مثلهم: قبلتم محمد الحسن الميرغني والمؤتمر الشعبي وكانا مشاركين في الإنقاذ وقبلتم حركتي الطاهر حجر والهادي إدريس وقد كانا داعمين ومشاركين في انقلاب 25 أكتوبر فلا جناح أن تفتحوا التوقيع للآخرين.
    أما حجة التوقيع ككتلة فالحرية والتغيير نفسها كتلة فلا ضير من التغاضي عن مثل هذه الأشياء والبلاد على حافة هاوية إذا وقعت فيها ستطيح بالاتفاق الإطاري وبالبلاد نفسها.
    الشاهد أن المرء قد لا يستطيع تحقيق كل أهدافه بضربة واحدة، وفقه ترتيب الأولويات مهم لكل سياسي بل لكل شخص.
    (4) مأزق (لا للحرب):
    هناك أعداد كبيرة من السودانيين ترفض الحرب وتريد عودة السلام والاستقرار للبلاد وهم لا يهتمون كثيراً للنتائج السياسية فالأولوية عندهم لعودة السلام للبلاد.
    ولكني أزعم أن هذا التيار العريض ليس له تمثيل مؤثر على الواقع.
    هؤلاء فعلاً دعاة لا للحرب ولكن بدون آليات لوقف الحرب.
    وفي هذا المقال لا أتحدث عن المنحازين لأحد طرفي الصراع بشتى الدوافع العريضة والضيقة.
    العريضة كأن يرى بعضهم أن انحيازه للطرف المعين يحقق مصلحة الوطن والضيقة كأن يكون الانحياز على أساس أيديولوجي أو حزبي أو قبَلي أو جهوي أو مصلحة سياسية ذاتية أو منفعة مادية أو اتفاق تحت الطاولة. وهذا ينطبق على المنحازين للطرفين حتى لا يظن أحد أني أعرّض أو أغمز طرفاً واحداً. ولكن الحديث هنا عن كيفية تحقيق شعار لا للحرب.
    وهناك القوى السياسية التي تتبنى شعار ( لا للحرب) ولكنها للأسف لا تعمل لتحقيق ذلك الشعار. وأنا هنا لا أحاكم النوايا وإنما أحاجج بأنها لا تسلك الطريق الوحيد لتحقيق شعار لا للحرب.
    أنا هنا أتحدث عن القوى السياسية التي تتبنى بشكل رئيسي ورسمي شعار (لا للحرب) وعلى رأسها قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي وبقية قوى الثورة خارج قحت.
  • فشعار (لا للحرب) يعني ببساطة نعم للحوار والتفاوض. والتفاوض والحوار يكون بالضرورة بين الأطراف المختلفة أو المتخاصمة أو المتصارعة أو المتحاربة ولا يكون بين المتفقين.
  • وهذا يعني ببساطة أن تقبل الأطراف بالجلوس مع بعضها بغض النظر عن المواقف السابقة أو الحالية.
  • فإذا كانت قحت المركزي ترى أن الحرب يقف وراءها الكيزان وكانت قحت ترفع شعار لا للحرب فيجب عليها إما أن تغير الشعار إلى ( نعم للحرب حتى يتطهر الجيش من الكيزان) أو الحوار معهم لوقف الحرب فالحوار لمنع الحرب يكون مع المتسببين فيها. وقد علمت أن هناك نقاشاً جاداً دار داخل اجتماعات قحت المركزي الأخيرة بأديس أبابا حول الحوار مع الاسلاميين وأن هناك رؤى مختلفة حول هذا الأمر من رافضٍ له ومن يرى اختيار اسلاميين معتدلين الخ. ومجرد هذا النقاش أمر محمود إذ لا يصح تجاهل هذه القضية.
  • وإذا كانت قحت تسعى لتكوين جبهة عريضة لوقف الحرب فهذا يتم عبر الحوار لتكوين تلك الجبهة العريضة والحوار كما أسلفت لا يكون مع المتفق معك وإنما مع المختلف معك. فلماذا لا تجلس قحت المركزي مع قحت الكتلة الديمقراطية لتكوين الجبهة المدنية التي تتفق على برنامج موحد لوقف الحرب وتقدمه لكافة القوى المدنية والسياسية وللشعب السوداني ولطرفي القتال وللوسطاء الاقليميين والدوليين.
    بدأت بالحديث بقحت المركزي لأنها كانت أكبر كتلة مدنية تحظى بشرعية واسعة قبل تصدعها وخروج وتجميد أحزاب وكيانات مهنية ومدنية منها وقبل نشوب الحرب التي خصمت بالحق أحياناً وبالباطل أحياناً من رصيدها الشعبي.
    فمنذ اندلاع الحرب ظلت قحت المركزي تحاور نفسها بعد فترة الصمت الأولى. حاورت نفسها في كمبالا وفي أديس وفي القاهرة ثم في أديس ولكنها لم تسع لتحويل حوار النفس ( المونولوق monologue ) إلى حوار مع الآخر ( dialogue).
    والغريب أن قحت منذ انقلاب 25 أكتوبر ظلت تكرر الحديث عن سعيها لتكوين أكبر جبهة مدنية لاستعادة الديمقراطية ولم تستطع فعل ذلك بل بدأت في التشرذم بعد خروج الشيوعي والبعث الأصل منها حيث لم تستطع الحفاظ عليهما دعك من الحوار مع الآخرين واستيعابهم. والآن تكرر نفس الخطأ بالسعي لتكوين جبهة عريضة لايقاف الحرب ولكن دون السعي بل والرفض للحوار مع الآخرين.
    خريطة طريق وقف الحرب تبدأ بالحوار مع كل القوى السودانية دون استثناء للوصول لقواسم مشتركة عريضة دون الإصرار على فرض رؤية واحدة.
    والحل السياسي ووقف الحرب يحدث في عدة حالات مثلاً إذا شعرت الأطراف أن كلفة الحرب أكبر من كلفة السلام والاتفاق، ويحدث ذلك في حالات الإجهاد الحربي، أو مع تزايد احتمالات حدوث انكسار عسكري لأحد الأطراف فإناه يسعى لاستباق ذلك بقبول التفاوض أو في حالة التعرض لضغوط لا تقاوم ألخ.
    وللاستعداد لتلك الاحتمالات يمكن أن يتم الآتي:
  • حوار وتفاوض بين القوى المدنية كلها دون عزل، للاتفاق على رؤية لأسس وقف الحرب.
  • ثم يتم تبني تلك الرؤية الوطنية وتقديمها للوسطاء ليتم التوصل لوقف إطلاق النار.
  • يعقد مؤتمر سلام قومي برعاية دولية واقليمية متوازنة تتفق عليها كل الأطراف وبمشاركة كل القوى السياسية السودانية دون عزل لأية جهة، يتم فيه الاتفاق على الأسس العامة لشكل الحكم ومؤسساته المدنية والعسكرية في الفترة الانتقالية وينتهي المؤتمر بتكوين حكومة قومية مستقلة لا حزبية تمهد الطريق للانتخابات بعد الفترة الانتقالية.
    (5) صعوبات تواجه وقف الحرب
    ومع أن اتفاق القوى السياسية والمدنية بمختلف اتجاهاتها ومسمياتها مهمٌ لمشروع وقف الحرب إلا أنه غير كاف، فوقف الحرب صعب جداً بل يكاد يكون متعذراً في الوقت الراهن وذلك لعدة أسباب داخلية وخارجية.
    أما خارجياً:
  • فالدول المشاركة في الحرب رغم إنكارها قد استثمرت في الحرب لخدمة مصالحها ولا تريد انتهاء الحرب بعد أن أنفقت عليها إلا بعد تحقيق مصالحها.
  • وهناك دول تريد تفتيت السودان مثل اسرائيل ودول تريد إضعافه مثل كثير من دول الجوار لأسباب مختلفة فليس لديها الحماس الكافي لايقاف الحرب.
  • وهناك دول تريد وقف الحرب لأنها تتأثر سلباً بالحرب حيث تهدد الحرب أمنها القومي مثل مصر وتشاد وكذلك تتأثر بتبعاتها من لجوء وضغط على مواردها الشحيحة أصلاً. ولكن الدول المتضررة من الحرب لا تملك أدوات كافية للضغط أو التأثير بل هي نفسها قابلة للضغط عليها. ولا نريد أن نستفيض في مواقف كل الدول تفصيلاً لا سيما الدول الكبرى التي تكثُر الدلائل على تراخيها.
    أما العقبات التي تعترض وقف الحرب داخلياً فهي كالآتي:
  • بالنسبة لطرفي الصراع العسكري صارت هناك صعوبة بالغة في العمل المشترك تحت مظلة واحدة. فبعد أن سالت الدماء الغزيرة بينهما وتأججت الحرب الاعلامية وخطاب الكراهية صار الحديث عن دمج القوتين صعباً من الناحية العملية في الوقت الراهن وسيتطلب كسر الحاجز النفسي زمناً قبل القبول بالحديث عن ذلك.
  • بالنسبة للجيش : حسب عقيدته العسكرية فليس من السهل عليه التغاضي عن كرامته والقبول بمساواة الدعم السريع له والتعامل معه كواقع يفرض جيشين في بلد واحد بعد هذه الحرب، وهذا طبعاً حسب عقيدة وتربية الجيش بغض النظر عن صحته من عدمها فهذا يشكل أحد عوامل صعوبة ايقاف الحرب في الوقت الراهن قبل تحقيق نصر حاسم أو واضح يجعله المحتكر الوحيد للسلاح.
  • أما بالنسبة للدعم السريع فتأتي الصعوبة من جهتين: الأولى فقدان القيادة العليا المسيطرة على الجنود الذين صاروا يتحركون تحت قادة عسكريين ميدانيين ولكن ليس هناك قيادة عليا تستطيع إلزام الجنود بوقف إطلاق النار أو أي تعهد آخر إذا تم التوصل إليه، ويبدو أنه ليس هناك قيادة عليا متفق عليها بعد غياب حميدتي، فتأثير المستشار السياسي على الجنود معدوم وهو بعيد عن الدوائر المؤثرة الاقتصادية والعسكرية للدعم، وخروج عبد الرحيم دقلو خارج السودان يعني أن مركز القيادة العسكرية موزع بين القادة العسكريين للمجموعات المختلفة داخل الدعم السريع وليس هناك قائد عام واحد للجنود. أما الصعوبة الثانية والتي تمنع الدعم السريع من الحماس للحوار ووقف الحرب فهي قناعة جنوده بأنهم يستطيعون أن ينتصروا عسكرياً لا سيما مع تواصل الامداد المادي والعسكري من العتاد والمعدات والامداد البشري من مناطق خارج العاصمة والتجنيد لفئات فقيرة بالمال من أطراف المدن. ولا يمكن اغفال عامل النفوذ الاجنبي على الدعم السريع ودوره في حضه أو منعه من الجلوس للحوار.
  • ولا ننسى أن عناصر النظام السابق والمتضررة من ثورة ديسمبر المجيدة هي من دعاة استمرار الحرب حتى التخلص من الدعم السريع.
  • عوامل غائبة أسهم غيابها في تدني فرص وقف الحرب: حيث فقدت البلاد أصحاب الخبرة والحكمة والحنكة والكاريزما السياسية وأبلغ وأفدح فَقْد في مثل هذه الظروف كان غياب الامام الصادق عليه الرحمة والرضوان. ثم تآكل الممسكات الوطنية حيث ضَعُف لحد كبير دور زعماء القبائل وأسهم بعضهم سلباً في هذه الحرب، هذا مع اعترافنا بفضل بعضهم الآخر في منع انتقال الحرب لبعض المجتمعات المحلية وهذا دور يستحق الثناء والتنويه. كما ضعُف دور رجال الدين وتأثيرهم وضعُف دور الحزبين الكبيرين وهما حزبا الوسط .
  • وهناك الرفض الشعبي الواسع للدعم السريع بعد الانتهاكات التي ارتكبها بحق المواطنين والمدنيين وهذا يصعّب على الجيش فكرة الجلوس للحوار الذي قد يعيد ادماج الدعم في الحياة السياسية والعسكرية.
  • هذا فضلاً عن حالة الانتظار والترقب العامة لدى القوى السياسية والحركات المسلحة التي لا تريد الاستعجال أملاً في انتصار الطرف المفضل لكل جماعة حيث يخامر قطاع عريض ظنٌ بأن ميزان القوى لن يستمر في التوازن الحالي لفترة طويلة فيطمع أنصار الجيش في التخلص من المليشيا دون تفاوض يعيد انتاجها ويطمع مؤيدو الدعم أو حلفاؤه في انتصاره والتخلص من المؤتمر الوطني والعودة للاتفاق الاطاري.
    هذه صعوبات حقيقية يمكن إجمالها في عدم رغبة طرفي الصراع في وقف الحرب في الوقت الراهن: عدم رغبة الجيش بانتهاء المعركة بهذا التوازن الميداني الحالي وعدم رغبة الدعم السريع ومؤيديه الأجانب ( أعني الدول الداعمة له) في وقف الحرب، وعدم رغبة الحرية والتغيير المجلس المركزي في تغيير أولوياتها وتجاوز المرارات التي تمنعها من الحوار والتفاوض مع القوى السياسية المختلفة معها للوصول لقواسم مشتركة يتفق حولها كل الجسم السياسي والمدني للضغط على الأطراف المتصارعة.
    (6)
    وأبلغ دليل على صعوبة الوصول لوقف قريب للحرب بإرادة الأطراف أن مثل هذا الكلام الداعي لتغيير الأولويات وتجاوز المرارات وتوسيع الحوار الوطني لا يجد ترحيباً من أغلب الأطراف.
    فمن تحدثت معه من داعمي الجيش يتمترس في موقف عدم قبول تعدد الأسلحة خارج يد الجيش وعدم القبول بالدعم السريع بعد هذه الانتهاكات وبالتالي إما الاستسلام أو القضاء عليه عسكرياً. ومن تحدثت معه من القوى السياسية المؤيدة لقحت المركزي يرفض مبدأ الحديث مع الاسلاميين الذين يقول أنهم هم من يقف خلف الحرب كما يرفض الحديث مع الكتلة الديمقراطية والجماعات الأخرى ويحقّرهم وإذا سألته مع من يريد الحوار يقول مع القوى المؤمنة بالثورة والديمقراطية وإذا سألته فهل اتفاقك معها سيوقف الحرب بالحوار، فلن تجد إجابة مقنعة. ويقيني أننا إذا لم نغير أولوياتنا بالتوجه لوقف الحرب وفتح صفحة جديدة في حوار جامع لا يستثني أحداً ولا يهيمن عليه أحدٌ فلن يكون معنا إلا الصبر والدعاء لعودة الأمن والأمان لسودان موحد مترابط النسيج الاجتماعي خالٍ من السلاح إلا في يد قوات مسلحة واحدة قومية التكوين قومية العقيدة . هذا ما نراه ولعل الله سبحانه وتعالى يريد بنا خيراً من هذا: أن يخلّصنا من كل الأشرار بفضله ومنّه وكرمه وأن يكشف الغمة بأسرع مما نتوقع، لا ندري (لَعَلَّ ٱللَّهَ یُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَ ٰ⁠لِكَ أَمۡرࣰا) فهو القائل:
    (حَتَّىٰۤ إِذَا ٱسۡتَیۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤا۟ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُوا۟ جَاۤءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّیَ مَن نَّشَاۤءُۖ وَلَا یُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِینَ)

تعليق واحد

اترك رد

error: Content is protected !!