
فى زمن التواصل الفورى والتفاعل اللحظى والبث المباشر ليوميات حرب الكرامة وآثارها المدمرة كانت تفاصيل الأحداث تأتى مشحونة بالتهويل والتأثير النفسى المدمر والمقصود من قبل الإعلام المُضَلِّل للمليشيا الإرهابية .. ورغم سقوط الفاشر وغيرها من المدن العزيزة على الشعب السودانى بآلة القتل الإقليمية والدولية التى وضِعَتْ فى أيدى عبيد آل دقلو إلاَّ أنَّ الدولة السودانية شامخة برجالها لم ولن تسقط بحول الله وقوته بل الإنسانية من سَقَطَتْ فى متاهات التوحش التى لا أخلاق ولا مبادئ لمرتكبيها ، وغرقت فى بحرٍ من دماء الأبرياء التى سالت فى قراهم ومدنهم وبواديهم .. فالإنسانية المُدَّعاة والقانون الدولى الإنسانى والقانون الدولى لحقوق الإنسان والصكوك والمواثيق أضحت حبراَ على ورق كما يقولون .. والوحدة العربية لم تَعُد إلاَّ محض شعارات يرفعها الساسة العرب فى كل قمة بل فى كل غُمَّة وظلَّت رائجة لعقودٍ خلت .. ولم تتحرك إنسانيتهم ولا مصيرهم المشترك المزعوم للتصفيات الجسدية التى نفذتها المليشيات المجرمة بكل تلذذ وعلى مسمع ومرأى من العالم فى أماكن مختلفة من أرض السودان .. وكما أن الدعوى إن لم يسندها الدليل والسند تُصبح مجرد إدِّعاء فإن الإنسانية أيضاً تُصبح شعاراتٍ خادعة وإدُّعاءاتٍ كذوبة إن لم تجد من يَتَمَعَّر وجهه غضباً لإنتهاك الحُرُمَات .. وهذا وحده سببٌ كافٍ لهدم الهياكل والمعابد ( الأمم المتحدة والجامعة العربية وغيرها من الأجسام ) التى ظللنا نقدسها ونؤمن بمواثيقها لأكثر من سبعين عاماً ..!! وهى فى حقيقة الأمر لاتعدوا عن كونها سوقاً لبيع الرقيق .. !! ومن قال أن تلك التجارة المُحَرَّمَة قد إنتهت ..!!؟ فالذى إنتهى هو طريقة العرض والبيع والشراء فقط ، فليس من اللائق تقييد الرقيق والعبيد فى الألفية الثالثة بالسلاسل والحديد وفى مقدور أسيادهم تكبيلهم وإحكام الوثاق على معاصمهم ورقابهم بالإتفاقيات والمواثيق الدولية ..!!
نعم ستنتهى هذه الحرب لامحالة بعز عزيز أو ذل ذليل بمشيئة الله ولن يبقى أهل السودان أسرى لأيامها السوداوات فهم أكثر وعياً من أن يحولوا جراحاتها إلى أدوات للإنتقام القبلى أو للصراع السياسى أو الإقتتال الأهلى كما يُريد أولئك الناقصون .. فخصوماتهم وعداوتهم لم تكن من قبل إلاَّ فى قلعة المريخ وجوهرة الهلال وفى صحافتهما الرياضة ( خصومة بكل المحبة والمودة والغضب الجميل ) .. ولم يزرعوا بذوراً للإنتقام أو الإنقسام فى تأريخهم إلاَّ بذور الخير والنماء .. فهذا الوعى المجتمعى هو أكبر ضامن لكل ما يُهدد مستقبل السودان وأمنه رغم الفجيعة التى تسبب فيها غدر الهالك وعقوق بعض أبنائه ممن يناصرونه .. ويجب أن تكون هذه الحرب عند إنتهائها موضع عبرة وإتعاظ لا ساحة مزايدة ومساومة فما أحدثته المليشيا الإرهابية من فظائع لا يمكن معالجته وتطبيبه بالصفقات السياسية بل بالإرادة الوطنية الصادقة من أجل الإنطلاق للبناء .. فالمليشيا التى كانت تُحد شفرتها قبل الحرب لا لتريحنا عند الذبح بل لأن شيمتها الغدر ونحن فى غفلتنا نزورها فى الأعياد ونبتسم فى وجهها ببلاهة ونقدم لها النزور وننحر لها الجزور ونركض وراء سراب خوفنا من إنطلاق رصاصتها الغادرة ، وخوفنا من الوقوع فى فتنة الإقتتال حتى وقعنا فى الجُّب والجُحر الخَرِب .. ولجأ أهل بلادى إلى دول الجوار فى رحلات الموت ليس إنسلاخاً من الوطن بل للأذى الذى لحق بهم وتسبب فيه من تسبب ..!! وذاقوا طعم اللجوء المُرّ ومرت عليهم ثلاث أُضحيات فى ملجأهم القسرى كانوا فيها هم الضحايا .. يصطنعون الفرح لصغارهم فى بيئةٍ لم يألفوها ولم تألفهم ( وتشهد الفيصل بذلك وحدائق الأهرام عليمة ) وهم الحُزن الممتد من ود النورة والسريحة إلى الجنينة و الفاشر .. تلك الديار التى كانت دوماً كريمة ومتسامحة بدون المليشيا وأم قرونها ..!!
والمتابع للمشهد السودانى ( ليس مشهد أحمد طه بالطبع ) يتبين له أن عقل الدولة لايزال متأثراً من إرتجاجات صدمة الحرب ومن إرتدادات صدى الخيانة فى جنبات الفضاء الإسفيرى لأّناسٍ كُنّا نَعّّدهم من أولى النُهى والأحلام والرشد السياسى ففضحتهم ألسنتهم ومواقفهم وهم يَقَبِّلون الأرض بين يدى الهالك ويطوعون له المعانى والألفاظ ويبحثون عن مقامٍ جديد من مقامات النفاق للعزف على أوتار الخيبة حتى تغرق سفينة الوطن وترقد فى قاع الدنيا على أنغام الخيانة كما غرقت التيتانيك بجوقتها الموسيقية وهى تعزف لحن الوداع .. لتقوم مقامها دولة الملاقيط وكلاب الصحراء ..!! خاب فألهم ومسعاهم .. ورغم كل تلك الغفلة التى أوصلتنا إلى ما نحن فيه فإننى لا أخاف على السودان من رصاصةٍ أخرى غادرة بل أخاف عليه من نفسه ومن سلوك بعض أبنائه الذين يروجون لمشروع تدميرى لم تتضح ملامحه ومعالمه بعد وإن كانت أماراته البائسة ظاهرة للعيان .. فكل الذى نحتاجه فعلاً وسط دخان المؤامرات الإقليمية والدولية هو إستعادة البوصلة الأخلاقية والوطنية والجرأة فى إتخاذ القرارات المصيرية وأن نتعلم جيداً من دروس معركة الكرامة باهظة الكُلفة وفادحة الثمن لنبنى قراراتنا الوطنية والمصيرية بكل جرأة من واقع المسؤولية الرسمية ومن الوقائع الماثلة لا على الأهواء والرغبات ( نرمى طوبة حب ونرمى مونة محنَّة ) ، وعدم التفريط فى شبرٍ منه فكل أجزائه لنا وطنٌ .. ولنعلى صوت الحق والبصيرة بعد أن عزّ النصير والمناصر ..!!
وحفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .
السبت ١٣ ديسمبر ٢٠٢٥م




