في الفكر والسياسة / عثمان جلال

الحزب الشيوعي وقضايا البناء الوطني الديمقراطي ..

عثمان جلال

           

(1)
الايديولوجيات تتفاعل في إطار الاندماج في العملية الديمقراطية التي تفتح منافذ الحوار مع الآخر المغاير فكريا أو كما ذكر هابرماس ( فضاءات الممارسة التواصلية)، وهذا التنافس الديمقراطي وسط المجتمع حتما سيؤثر في الايديولوجيا حيث تتم المراجعات الفكرية التي تمكن من الانفتاح أكثر نحو المجتمع ، وهكذا كانت سنن التطور للأحزاب الشيوعية الأوربية في ستينيات القرن الماضي، والتي تأثرت برؤية اليساريين الاشتراكيين والذين يرون أن التغيير التدريجي في إطار النظام الديمقراطي الغربي، وتبني القضايا النقابية والعمالية هو المسار أكثر دينامية في صناعة الثورة الاشتراكية ، وهذه الرؤية وجدت نقدا لاذعا من لينين والذي يرى أن التراكم الكمي لن يؤدي إلى تغيير نوعي في المجتمع إلا عبر طفرة أو ثورة جذرية تنهي البنية التحتية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية للنظام القديم، وقد ارتكز بروسيس الثورة عند لينين على مفاهيم الصراع الطبقي والعنف الثوري والذي أنتج أسوأ نظام دكتاتوري في التاريخ الحديث حيث انتهى إلى محض دكتاتورية دون برولتاريا وهي ذات الطبقة التي أنتجت ثورة البلاشفة
(2).
تعتبر انتفاضة اكتوبر عام 1964 والتي أنهت نظام عبود من الأحداث السياسية الكبرى التي وحدت الشيوعيين والاسلاميين ، وكان الأجدى استمرار هذا التقارب في مرحلة الديمقراطية الثانية والتي فازت بها الأحزاب التقليدية وذلك لتعميق ثقافة الديمقراطية في الحكم وبنية الأحزاب الوطنية ولكن اشتدت حالة الاستقطاب بين الإسلاميين والشيوعيين، وبدلا من إدارة الخلافات داخل مؤسسات النظام الديمقراطي الهشة لمأسستها نزعا إلى التسلل وبناء الخلايا داخل المؤسسة العسكرية ، وهكذا استمرت حالة الاستقطاب الحاد المدرستين وتجلى ذلك في تحالف الحركة الإسلامية مع الأحزاب التقليدية عام 1965 بعد حادثة معهد المعلمين حيث لم تتم إدارة الأزمة بالآليات الدستورية والقانونية لتعزيز النظام الديمقراطي وأفضت إلى طرد نواب الحزب الشيوعي المنتخبين من البرلمان بل وتبع ذلك عمليات اعتداء طالت كوادر ودور الحزب وصفها المرحوم عبد الخالق محجوب في سلسلة مقالات ( بعنف البادية).
(3).
بعد طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان أعمل الحزب مراجعات فكرية لتشخيص أزمة الثورة الوطنية الديمقراطية في السودان حيث ربط الأزمة بالنظام الاجتماعي السوداني الذي يقف على طرفي نقيض مع المفاهيم الماركسية وتبدى ذلك في كتاب المرحوم عبد الخالق محجوب حول البرنامج (ان التناقض الاستراتيجي لثورتنا الوطنية هو الاستعمار الحديث والتحالف البرجوازي شبه الاقطاعي في الداخل والطبقات المستغلة)، ولكن ماهي الرؤية والخط السياسي للحزب الشيوعي لتجاوز هذه العقبات الاستراتيجية وإنجاز ثورة التغيير ?? بعد انعقاد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني عام 1967،تبلور اتجاهين للتغيير الاتجاه الأول يقوده المرحوم احمد سليمان والذي كان يرى أن اليمين السوداني اختطف منجزات ثورة أكتوبر ولابد من استعادتها عبر تحالف بين التيار التقدمي داخل المؤسسة العسكرية ، والطبقة العاملة وقد انبرى المرحوم عبد الخالق محجوب مفندا هذا الخيار في سلسلة مقالات تحت عنوان ( قضايا ما بعد المؤتمر) وجوهرها ان إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية ينبغي تتم عبر آليات العمل الصبور والتدريجي والتغلغل وسط المجتمع ووصف آلية الانقلاب في التغيير ( طريق البرجوازية الصغيرة)، ولعل رؤية المرحوم عبد الخالق للتغيير كانت اقرب الى رؤية الاشتراكيين الأوربيين التي تعتمد الإصلاح التدريجي داخل النظام القديم وصولا إلى الثورة الديمقراطية ولكن يبدو أن زعيم الحزب الشيوعي وقع في فخ التناقض فقد نزع الحزب الشيوعي إلى تشكيل جبهة تقدمية عريضة متحالفة مع المؤسسة العسكرية أنهت التجربة الديمقراطية الثانية في مايو 1969، وقد حاول اليسار الشيوعي تجيير الثورة لصالح مشروعه الفكري والسياسي والهادف إلى إحداث تغيير بنيوي يفضي إلى تفكيك البنية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع السوداني فكانت سياسات التأميم، وإلغاء الإدارة الأهلية، ومحاولة تغيير تركيبة وعقيدة المؤسسة العسكرية السودانية ، على أن تنهض على أنقاض هذه العمليات التجريفية تشكيلات سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة تتناغم مع المفاهيم الماركسية ، وكما تعلمون فقد تعطلت استراتيجية اليسار الشيوعي في التغيير بعد إحباط انقلاب هاشم العطا وعودة الرئيس الأسبق النميري للحكم عام 1971 ، وتصفيته لقيادات الحزب المدنية والعسكرية.
فشلت استراتيجية الحزب الشيوعي في التغيير لعدم قراءته العميقة للمجتمعات السودانية، ففكرة الدين والتدين والاله والوحي والشريعة تبقى هي المحركات للإنسان السوداني منذ ابكار التاريخ وقد أدرك اليسار العالمي هذه المحددات الكامنة في الشخصية السودانية حيث عزا فشل عملية التغيير بعدم تشكل حالة النضج الثوري وسط المجتمع السوداني.
(4)
كان من المتوقع أن يقوم الحزب الشيوعي بعمل مراجعات في النسق الماركسي وتكييفه مع الواقع الاجتماعي والثقافي السوداني لاجتراح مقاربة فكرية تفضي إلى تشكيل حزب اشتراكي ذي خصوصية سودانية يساهم في صناعة الثورة الوطنية الديمقراطية ، ولكن وبطريقة الهروب إلى الأمام صنف الحزب الشيوعي المؤسسة العسكرية السودانية بأنها جزء من التحالف البرجوازي شبه الاقطاعي وعقبة أمام ثورة التغيير ولذلك ينبغي تدميرها وتفكيكها وطفق متحالفا مع حركات الهامش والغابة المسلحة، وفي ذات السياق التاريخي لجأت الحركة الإسلامية للتحالف مع المؤسسة العسكرية والتي ينزع الحزب الشيوعي لتحطيمها وبعد أن تخطى مشروع الحركة الشعبية العسكري مناطق جنوب السودان وبدأ في التوغل عسكريا نحو السودان الشمالي، وبالتالي فإن انتصار الحركة الشعبية كان يعني إزاحة المؤسسة العسكرية السودانية والشروع في تمكين المشروع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي لليسار الشيوعي المتحالف مع الغابة المسلحة، ولذلك جاء انقلاب الحركة الإسلامية الاستباقي في عام 1989 لإفشال هذا المشروع، وإنقاذا للهوية الوطنية والثقافية.
(5)
إن سلوك الحزب الشيوعي للتغيير لا ينزع إلى العقلانية والإصلاح الديمقراطي المتدرج بل إلى الثورة الراديكالية، وهذا الخيار الصفري يعني تدمير الدولة السودانية والدخول في أتون الحرب الأهلية الشاملة والفوضى الخلاقة وخلق بيئة جاذبة للإرهاب العالمي والجرائم العابرة للحدود، وتكثيف الهجرات غير الشرعية لأوروبا مما يعني تهديد الأمن الاوربي والإقليمي والدولي.ان هذا السيناريو سيجعل الغرب يرجح النظام الاستبدادي على الفوضوية.
لذلك ينبغي للحزب الشيوعي إذا ما أراد أن يكون فاعلا في قضايا البناء الوطني الديمقراطي التزحزح من حالة الخندقة والاستحباس الفكري وبناء حزب اشتراكي سودانوي، وإنهاء القطيعة التاريخية مع التيار الإسلامي الوطني لأن التوافق بين المدرستين الوصفة السحرية للنظام الديمقراطي المستدام، وعليه أيضا فك الارتباط السري مع حركات الهامش المسلح وحفزها على السلمية ونبذ العنف، والتحرر من عداء المؤسسة العسكرية، وعقلنة الهوجة الشبابية السالبة وتحويلها إلى طاقات فكرية وسياسية بناءة وداعمة للانتقال الديمقراطي، وعلي الحزب الشيوعي المبادرة في الحوار والتوافق مع كل القوى السياسية الوطنية لإنقاذ المرحلة الانتقالية الحالية وإنجاز التحول الديمقراطي المستدام، ان التوافق والتحالف مع كل القوى السياسية الخيار الاستراتيجي لاستمرار وتطور الحزب الشيوعي والا فإن التلاشي والانقراض سيكون مصيره الحتمي

اترك رد

error: Content is protected !!