الرأي

الاستثنائية الامريكية: إعادة بناء الامبراطورية ام نهاية عصر الهيمنة الامريكية؟

السفير خالد موسي دفع الله

✍️ خالد موسي

( تقديم كتاب مهددات هيمنة الامبراطورية الامريكية للدكتور السفير عماد الدين ميرغني)

هذا كتاب يقدم نفسه ولا يحتاج الي تقديم،
اذ انه مهم في موضوعه و هام في توقيته. حيث يسيطر الجدل في اروقة السياسة الدولية و فصول الدراسات الاكاديمية على سؤال نهاية عصر الهيمنة الامريكية، و جعل البعض يستدل على هذه الفرضية بصورة الخروج المهين للقوات الامريكية من افغانستان ( اغسطس ٢٠٢١) و الافغان معلقون علي اجنحة و اطارات الطائرة العسكرية العملاقة، وهي على مدرج مطار كابول.
عليه تنبع اهمية هذا الكتاب ليس من مجرد دراسته لشواهد الهيمنة الامريكية و اسباب صعودها التاريخي منذ الحرب العالمية الاولي فحسب، لكن بتسليطه الضوء على مهددات هذه الهيمنة عبر دراسة وافية وعميقة وموضوعية للعوامل الداخلية و الخارجية. و يصاحب هذا الموضوع تخوفات عظيمة اذ تدل شواهد التاريخ ان ضعف او سقوط الامبراطوريات و الدول المهيمنة يؤدي في الغالب الي اندلاع حروب مميتة تحصد ملايين البشر، كما ان بروز قوة منافسة على موقع القوة العظمي و تأسيس نظام متعدد القطبية بعد سيطرة نظام القطب الواحد منذ سقوط الاتحاد السوفيتي و نهاية الحرب الباردة ١٩٨٩، كحال الصين في الوقت الراهن يؤدي ايضا الي زعازع و تحولات دولية و حروب اقليمية و ربما عالمية، اذا اهتم الدارسون بتقليل كلفة هذه التحولات التي تقتضي اعادة توازنات القوة حتي لا تقود الي مأساة انسانية، علي النحو الذي حذر منه هنري كسينجر، و بما اسماه البعض( الهبوط الناعم) لمقدرات القوة الامريكية في الهيمنة المطلقة، وهو ما عناه حرفيا مستشار الامن القومي و المفكر الاستراتيجي برزنيسكي بالتحول من الهيمنة الي القيادة المشتركة للعالم كما سيرد لاحقا. و تبني الرئيس الامريكي جوزيف بايدن سياسة سلفه ترامب تجاه احتواء الصين وجعلها في قمة اولويات استراتيجية امنه القومي من اجل المنافسة و ليس تعزيز الصراع حسب وصفه.
يقول القدماء اذا ارادوا تقريظ كتاب: انه شريف المعني عالي الرتبة، اما كتاب الدكتور السفير عماد الدين ميرغني فهو اضافة لاهمية موضوعه و توقيت صدوره، فهو سفر جامع مانع، متدفق وغزير في مادته ،استقصي الغاية من البحث ، جمُّ الفائدة، و ماتع في صحبته.
عندما شرفني الدكتور والسفير عماد الدين ميرغني بتقديم كتابه الموسوم ” مهددات هيمنة الامبراطورية الامريكية”، وافقت مغتبطا وفاءً لآصرة الصداقة الممتدة والزمالة المهنية والاخوة الانسانية. ولكن ما ان بدأت في قراءة الكتاب حتي استعظمت مهمتي وندبت حظي على الموافقة التلقائية، اذ وجدت نفسي اطالع فصول سفر موسوعي، غزير المادة، جم المعارف ، سديد المنهج، سلس التناول موضوعي التحليل عالج مادته باقتدار علمي مشهود.
وجمع في منهجه بين العلمية الاكاديمية وما تقتضيه من استعراض للنظريات و تمحيص ونقد الاراء و التحليل والربط الموضوعي واستقصاء المراجع و التعريفات القاموسية، و بين السرد الوصفي الممتع لتطورات التاريخ والاحداث التي غيرت العالم.
وهو في تحليله اقرب للمدرسة الواقعية التي خطها مورغنتاو و سار علي دربها كسينجر باتخاذ مفاهيم (القوة) و ( الدولة القطرية) و الهيمنة و ( توازن القوة) و (المصلحة القومية ) اساسا للتحليل.
وهو مع صرامة منهجه ومادته العلمية يجمع بين قراءات التاريخ و الجغرافيا السياسية و تحليل اتجاهات السياسة الدولية، و يعيد طرح السؤال عن مهددات الهيمنة الامريكية و ما يترتب عليها من تحولات في موازين القوة الدولية و النظام الاقتصادي العولمي و استدامة السلام العالمي.
و استطاع بهذا الاسلوب ان يسقي بقلمه طلا منعشا على جفاف مادة السياسة والعلاقات الدولية واستعراض تاريخ العالم، وتحليل النظم السياسية المرتبطة بالهيمنة، وهي مادة لا يأنس بصحبتها الا ذوي الدربة و التخصص المهني و الاكاديمي.
و استطاع الدكتور السفير عماد الدين ميرغني ان يحيل غوامض و تعقيدات هذه المادة الي سهل منبسط و تناول سلس يخاطب العقل و الحس السليم، و أُسس المعرفة العلمية فأصبح هذا الكتاب يجمع بين الرصانة العلمية و الاكاديمية ، و أُسس المعرفة العامة، كما بسطه للقاريء المثقف ليفيد غير ذوي التخصص. فيجد فيه المثقف العام القاريء مادة تزيد ثقافته و ترفع وعيه بتعقيدات السياسة الدولية.
الاستثنائية الامريكية ليس وليدة خيط المهاجرين الاوائل الذين فروا بدينهم من الاضطهاد الكاثوليكي في اوروبا، بل هي ايضا هدية لظاهرة الجغرافيا السياسية اذ وفر لها موقعها الجغرافي أمنا حصينا منيعا بين محيطين هما الهادي و الاطلنطي .
و رغم ان مصطلح الاستثنائية الامريكية صكه الفيلسوف الفرنسي توكفيل في كتابه ( الديمقراطية في امريكا) عام ١٨٣٥ ، ليشير الي تفرد تجربة امريكا في البناء الاجتماعي و التأسيس الديمقراطي، حيث قال ان الولايات المتحدة ستحتل خلال خمسين عاما مكانة مرموقة في العالم لأنها أرض مهاجرين وانها اول ديمقراطية حديثة في العالم.
اشتمل الكتاب علي خمسة فصول، قسمها المؤلف لتوافي غايتها وهي:
تناول الفصل الاول ( الهيمنة الدولية)، و لم يقف المؤلف على مجرد التعريفات القاموسية التي ركزت علي ( القيادة، والسيطرة والقوة) وآراء المفكرين و المختصين فحسب، بل غاص عميقا في التاريخ و تتبع تطور المفهوم و ناقش حتي الجذور الاشتراكية التي جعلت من الهيمنة استراتيجية للطبقة البرجوازية، وربط ربطا موضوعيا بين الهيمنة و قوة الدولة وتوازنات القوة في السياسة الدولية.
يبحر بنا الكتاب في فصله الثاني عن نشأة الولايات المتحدة، و يقدم المؤلف مادة غزيرة استقصت العوامل التاريخية لنشأة وقيام الولايات المتحدة، منذ تدفقات المهاجرين الاوائل الفارين من الاضطهاد الديني الكاثوليكي في اوروبا. و كيف استطاعت ان تتشكل الهوية الجامعة للولايات المتحدة عبر مخاض تاريخي عسير، عابرا اشلاء ودماء الهنود الحمر من السكان الاصليين الي الحرب الاهلية . و كما سبق و أن اشرت من قبل، فإن افضل من عبر عن التكوين الاجتماعي لأمريكا هو الفيلسوف الفرنسي توكوفيل في كتابه ( الديمقراطية في امريكا)، والذي تنبأ منذ وقت طويل ان امريكا ستتحول الي دولة عظمي لبنية المجتمع الديمقراطي الذي اسماه nation of joiners، و يكشف التطور السياسي و الدستوري للولايات المتحدة خاصة ( الاوراق الفيدرالية) ان الآباء المؤسسين اهتموا بالحقوق و العلاقات و القانون في اطار بناء جمهوري فيدرالي متماسك يوزع السلطات بتوازنٍ صارم بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية مع تعزيز آليات المساءلة و المراقبة، و تعظيم الحقوق الاساسية غير القابلة للتصرف مثل الحق في الحياة و حرية التعبير التي مثلت التعديل الاول في الدستور الامريكي..
ناقش الفصل الثالث الذي اعتبره أهم فصول الكتاب ( صعود امريكا المثير)، و نجح الكاتب ان يقدم مادة غزيرة وهو يتتبع الاسباب و الخيط الناظم لصعود الولايات المتحدة و سيطرتها علي العالم.
و يستعرض الكتاب معظم الآراء التي ناقشت اسباب صعود امريكا وتفوقها، و هل هي بالفعل إستجابة للعوامل الخارجية بعد مهاجمة الاسطول الامريكي بواسطة الطائرات اليابانية في مدينة بيرل هاربور في ديسمبر ١٩٤١ مما أجبرها الدخول في الحرب؟، وهل صعودها تم استجابة لردود فعل و إن لم تكن تخطط لهذا الصعود بعد فترة العزلة المجيدة؟ و يعضد الكاتب أطروحته بالقول إن الهيمنة هي:” نتيجة غير مقصودة لردود افعال اتخذتها اما للدفاع عن نفسها او بالنيابة عن آخرين”. لقد دخلت امريكا الحرب ليست كقوة امبريالية كما قال الكاتب لكنها تحولت الي امبراطورية مكرهة.
ويتتبع الكاتب خيط التاريخ من الثنائية القطبية الي الاحادية القطبية، ويناقش خلال هذه الرحلة التاريخية موضوعات الثروة الامريكية، و كيف دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية بعد فترة الكساد العظيم، ويتناول ايضا سياسة ونظرية الاحتواء التي افترعها جورج كينان الدبلوماسي الامريكي المرموق الذي خدم في سفارة بلاده في موسكو في النصف الثاني من الاربعينات وتم نشر الاطروحة في مجلة ( الشئون الخارجية) وكان حظه من الصيت المهني منصب الوكيل فقط.
و يتتبع بالتحليل العميق نهاية الحرب الباردة و احداث الحادي عشر من سبتمبر التي غيرت وجه العالم الي الابد.
تشرفت شخصيا بحضور ندوة قدمها الرئيس السوفيتي الاسبق غورباتشوف في جامعة جورج مايسون بفرجينيا عام ٢٠٠٧، عن دوره التاريخي في انهاء الحرب الباردة،
و كنت اتوقع خطابا اعتذاريا منه علي غرار ما قال المفكر الاشتراكي الشهير سمير امين للرفاق في موسكو مع ارهاصات البيروسترويكا ان عليهم ان يتعلموا ابجديات الماركسية من مثقفي العالم الثالث. لكن كان غورباتشوف يؤكد امام طلاب الجامعة ان سياسة البيروسترويكا و الغلاسنوست كانت هي المنقذ للاتحاد السوفيتي من انهيار مهين كان سيخلق فوضي عارمة في العالم.
تناول المؤلف في الفصل الرابع مظاهر الهيمنة الامريكية على المسرح الدولي، و هو فصل مكمل في موضوعه للفصل الثالث الذي سلط الضوء علي صعود الولايات المتحدة كقوة مهيمنة في المسرح الدولي.
و يستعرض الكتاب ابرز مظاهر الهيمنة الامريكية و منها نهاية الحرب الباردة، و بروز ملامح النظام العالمي الجديد الذي نادي به الرئيس بوش الاب. هذا اضافة الي دور المؤسسات الامريكية في انفاذ سياسة واهداف الولايات المتحدة في العالم الخارجي مثل وكالة المخابرات المركزية ( سي اي ايه) و اندلاع حرب الخليج الثانية، ثم دخول عصر العولمة و التفوق العسكري الامريكي.
يناقش الفصل الخامس و الاخير وهو زبدة الكتاب مهددات الهيمنة الامريكية علي المسرح الدولي. و قد وُفق الكاتب في ان جعل اولي المهددات هو صعود خطاب الكراهية ضد الولايات المتحدة. Anti Americanism و التي تمثلت ابرز تمظهراته في الهجمات الارهابية في الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١.
ثم يناقش الكتاب المهددات الداخلية و الخارجية و لعل ابرزها تآكل النظام السياسي الداخلي الذي ادي الي تزايد الانقسامات العرقية، و تأثير رأس المال، كما ابرز على المستوي الداخلي ايضا قضايا ضعف التعليم، وهجرة العقول الامريكية. و على المستوي الدولي تبرز قضية العولمة التي عدّها الكاتب من قبل احد ابرز مظاهر الهيمنة الامريكية، و لكنها في نفس الوقت اعتبرها ايضا مهددا للهيمنة الامريكية.
وحسب كتاب البروفيسور جوزيف استغلز الحائز علي جائزة نوبل في الاقتصاد
Globalization and it’s discontent
ان العولمة رغم مزاياها في الغاء الحدود و حرية حركة البضائع و الافكار و تدفقات رأس المال و غيرها الا انها زادت الاغنياء غني و الفقراء فقرا. و قدم بعدها اطروحة ان ١٪ يسيطرون علي ٩٩٪ من الاقتصاد الامريكي. . كما رفد الصحفي الامريكي توماس فريدمان ادبيات العولمة بكتابه ( سيارة الليكزس و شجرة الزيتون) و كذلك كتاب
The World is Flat
الذي وجد ذيوعا وانتشارا عالميا.
و توسع المؤلف الدكتور عماد الدين ميرغني في احصاء مظاهر مهددات الهيمنة الامريكية ومنها بروز قوي اقليمية و دولية صاعدة مثل الاتحاد الاوروبي و اليابان و أخيرا الصين التي تعد في الوقت الراهن اكبر مهدد للهيمنة الامريكية. و قد حذر كيسنجر بعد القمة الافتراضية التي جمعت الرئيس الامريكي بايدن والصيني شي جينبينغ في شهر نوفمبر ٢٠٢١ ان التنافس المهلك بين الدولتين سيقود الي فوضي و حروب مهلكة و مهددة للانسانية اذا لم يتم الاتفاق علي التعاون و التنافس الحر بدلا عن الصراع و الحروب التجارية و العسكرية و نزعات الهيمنة والاقصاء و اعادة اصداء الحرب الباردة ، حيث كانت تقوم السياسة الخارجية وقتها علي معادلة صفرية zero sum game بمعني ان يأخذ طرف كل الربح و يخسر الطرف الآخر كل شيء. وهي ذات رؤيته التي فصلها في كتابه On China الذي سرد فيه الرؤية الاستراتيجية التي قادها مع الرئيس نيكسون للتعاطي مع الصين في النصف الاول من عقد السبعين من القرن الماضي.
حسب دراسات الامبراطوريات السابقة فإن العصر الامريكي Pax Americana سيستمر لعقود وان فقدت امريكا ادوات الهيمنة علي العالم، اذ يقول جوزيف ني معضدا هذا الرأي إن روما اصبحت مسيطرة بعد ثلاثة قرون من وصول ذروة قوتها. و قد انتبه زبينو برزنيسكي في كتابه
The Choice: Global domination or Global leadership
الي هذه الثنائية مؤكدا ان الولايات المتحدة تعتبر أكبر رأسمال سياسي في العالم الحاضر. و ان وظائف القوة الامريكية يجب توجيهها لقيادة العالم عبر تحالف عريض يضم العالم الليبرالي الحر بدلا من تحمل أعباء السيطرة الأحادية في ظل بروز تحديات كبيرة.
و قدم كيسنجر في بداية القرن مقاربة فكرية مهمة في كتابه
?Dose America Need Foreign Policy
مشيرا الي أن امريكا تقدم نفسها كصانع وضامن للمؤسسات الديمقراطية في العالم و حَكَم عالمي علي نزاهة الانتخابات و الاجراءات الديمقراطية. و ان قوة امريكا المستمدة من تفوقها العسكري و التكنلوجي و الاقتصادي اضافة لفشو ثقافتها الشعبية آخذة في التناقص و الضعف ما لم يتم الاستدراك عليها باعادة انتاج نظام دولي جديد يرتكز على مباديء المصلحة القومية للولايات المتحدة و يراعي التطورات الهائلة في سياقات العلاقات الدولية خاصة الانتشار النووي، تحديات المناخ، اتساع نطاق تكنلوجيا الاتصالات، الإرهاب و ضعف نموذج الدولة القومية الويستيفالي التقليدي بعد إقرار سياسة التدخل الانساني و تأسيس نظم للعدالة الدولية.
في ظل منهج المدرسة الواقعية في السياسة الدولية التي اختطها هذا الكتاب وهو يناقش بالدرس و التحليل مهددات الهيمنة الامريكية، يتوجب علينا تسليط الضوء على كتاب يكتسب اهمية استثنائية في سياقات النظام الدولي من وجهة نظر امريكية.
في كتابه ( النظام العالمي) الصادر عام ٢٠١٥ يحاول هنري كيسنجر تقديم رؤيته وتحليله لتحديات القرن الحادي والعشرين و ضرورة بناء نظام عالمي مشترك في عالم يمور بالمتغيرات ويختلف في سياقات تطوره التاريخي ، ومشحون بالصراعات العنيفة وانتشار التكنلوجيا القاتلة مثل السلاح النووي و الايدلوجيات المتطرفة. ويؤكد كسينجر انه لا يوجد ما يسمي بالنظام العالمي حقيقة حيث قامت كل امبراطورية وقوة مهيمنة علي تصور العالم من مركزها الحضاري و السياسي مثل الامبراطوريات الصينية والرومانية والإسلامية. و يقول إن الهيمنة تنتج عندما ينهار النظام الاقليمي و يفشل ايضا في انجاز شراكة فاعلة مع المنظومات الدولية الأُخرى وهو يعضد رؤيته الراهنة ان الولايات المتحدة يستحيل عليها مواصلة هيمنتها على العالم بصورة منفردة، لكنها يمكن ان تقود العالم في سياق تحالفات عريضة و بناء نظام دولي يخدم أهداف مصلحتها القومية.
ما يميز هذا الكتاب أيضا اضافة لسداد منهجه و غزارة مادته، هو انه تجاوز ادبيات و نظريات ( موت الغرب) التي اصبحت هوسا بحثيا للدارسين من الشرق الاوسط ممن يتبرمون من هيمنة الولايات المتحدة ويتمنون زوالها من الخارطة الدولية. و يأتي في مقدمة من تنبأ بانهيار الحضارة الغربية في نموذجها الامريكي، الدكتور باتريك بوشمان و كتابه ( موت الغرب) و قبله اوسلان اشبنغلر و كتابه ( تدهور الغرب). حيث تنبأ بوشنان ان الولايات المتحدة خلال خمسين عاما لن تكون دولة غربية بالمعني المتعارف عليه، نسبة لعوامل الهجرة و التغيير الديمغرافي و التناقص السكاني، و لبروز الثقافة المضادة التي كانت سائدة في ستينات القرن الماضي، و كذلك الخواء الروحي بعد انحسار المد الديني للكنيسة مما ادي الي: “قتل الرب و أن يكون الفرد إله نفسه”.
لم يرهن مؤلف هذا الكتاب منهجه لنظريات “موت الغرب”، بل قدم تحليلا موضوعيا لمظاهر تحديات الهيمنة الامريكية.
وهنا يبرز رجحان النقد الذي وجهه نعوم تشوميسكي لسلوك الولايات المتحدة الخارجي بإعتبارها قوة امبريالية مهيمنة.
وددت لو ان الكتاب ناقش بتوسع دور اللوبي الصهيوني في توجهات السياسة الخارجية الامريكية، لا سيما ارتباطه الموضوعي بتصاعد خطاب الكراهية ضد الهيمنة الامريكية، و قد أثار هذا الموضوع انتباه عدد من الدارسين اشهرهم الاستاذين جون ميرشمير من جامعة شيكاغو واستيفن والت من جامعة هارفارد اللذان اصدرا كتابا مشتركا بعنوان
The Israel Lobby and U.S Foreign Policy
و يكشف الكتاب تطفيف المزاعم السائدة بأن مبررات دعم الولايات المتحدة لدولة اسرائيل تعود الي المصالح الاستراتيجية المشتركة والي الموقف الاخلاقي للمؤسسة السياسية الامريكية لدعم اسرائيل كجزء من الإرث الأخلاقي و العقيدة الدينية السائدة. و أثبت الكاتبان ان توجهات السياسة الخارجية الامريكية الداعمة لإسرائيل هي نتيجة لعمل ونشاطات و تأثير اللوبي اليهودي في امريكا.
و عليه فإن أول الاسباب التي اوردها هذا الكتاب وهو تصاعد خطاب الكراهية كأحد مهددات الهيمنة الامريكية تعود في الاساس حسب كثير من الدراسين للدعم المطلق لدولة اسرائيل علي حساب القضية الفلسطينية ، حيث نجح الرئيس الامريكي السابق ترامب في تسويق صفقة القرن التي كانت تستهدف تصفية القضية الفلسطينية و تمثلت أبرز تمظهراتها في الاتفاقيات الابراهيمية بين اسرائيل و عدد من الدول العربية.
في اطار تسليط الضوء على الأسباب الداخلية لمهددات الهيمنة التي تطرق اليها الكتاب في الفصل الخامس و الأخير، أشار المفكر الامريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه
Political order and political decay
ان النظام السياسي الامريكي يمر بمخاض عسير جراء التآكل الداخلي نسبة لإختلالات توزان السلطات الداخلية بين السلطات التنفيذية، التشريعية و القضائية، و أشار بوضوح ان ما يضعف من فعالية النظام السياسي للولايات المتحدة هو طغيان سلطات التشريع و القضاء على حساب السلطة التنفيذية على النحو الذي وضعه الآباء المؤسسون في الدستور الامريكي.
و ينبه الكتاب الي مخاطر تآكل النظام السياسي الذي منح امريكا تماسكها الداخلي و الثبات و الاستقرار و دوره في تأسيس الدولة الليبرالية الديمقراطية التي ناقشها في كتابه ( نهاية التاريخ) لكن يؤكد فوكوياما أن اختلالات موازين القوة و عوامل التآكل الداخلي ستؤدي الي اضعاف النظام السياسي الامريكي و سينعكس ذلك سلبا على تمظهرات قوتها الدولية في النظام العالمي.
منذ ان تبنت الولايات المتحدة نظام التعليم المزدوج وهو Oxbridge collage الذي جمع بين نظام البحث الالماني و الدراسات البريطانية الذي بدأ في جامعة جون هوبكنز في الساحل الشرقي ظلت الجامعات الامريكية في موقع الصدارة العلمية في العالم، هذا رغم تدهور نتائج التعليم العام خاصة في المواد العلمية و الرياضية التي تتفوق فيها الدول الآسيوية على وجه الخصوص. و قال مختصون استنطقتهم صحيفة “الواشنطن بوست” انه رغم تراجع أداء نظام التعليم العام الامريكي إلا انه قادر على استدامة التفوق في مجال ( الابتكارات) لقوة الملكة النقدية و الحرية الشخصية في النظام الاميريكي على عكس النظام الآسيوي( الصين، كوريا والهند واليابان) الذي يقوم على التقليد و المحاكاة و التلقين اكثر من تطوير ملكات التفكير النقدي.
إن الدكتور و السفير عماد الدين ميرغني يخوض غمار هذا التأليف و هو محتشد بأدوات الدرس و مناهج البحث العلمي و الخبرة العملية. فهو اضافة لتأهيله الاكاديمي الرفيع حيث انجز رسالة الدكتوراة متخصصا في العلاقات الدولية، فهو ايضا دبلوماسي مطبوع و سفير مقتدر.
اذ تدرج في سلك العمل الدبلوماسي حتي درجة السفير، و عمل في سفارات السودان في أريتريا، السعودية، كوريا الجنوبية، الولايات المتحدة ،كما عمل قنصلا عاما في اسطنبول و سفيرا للسودان في مملكة النرويج.
تولي السفير و الدكتور عماد قيادة العمل الدبلوماسي قائما بالاعمال بالإنابة في سفارة السودان بواشنطن في فترة عصيبة و مفصلية في تاريخ العلاقات بين البلدين، و شهد خلال فترة عمله تحولات السياسة الخارجية الامريكية عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. و عاصر النقاش و الحوارات الداخلية في الكونقرس ووسائل الاعلام و الجامعات و في البيت الابيض ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية حول توجهات السياسة الخارجية بعد الهجمات الإرهابية. كما شهد من واشنطن غزو العراق و افغانستان و حصار وعزلة السودان.
و ينطلق المؤلف من خبرة مهنية رفيعة في مجالات السياسة الدولية و الإقليمية و العمل الدبلوماسي الثنائي و متعدد الاطراف. كما توفرت لديه خبرة نادرة عن الولايات المتحدة و طريقة صنع السياسة الخارجية. لذا فهو جمع بين التأهيل العلمي و الخبرة العملية في مجال العلاقات الدولية عامة و الولايات المتحدة علي وجه الخصوص. و بهذا فهو يناقش موضوعات الكتاب بمنهج علمي رصين و معرفة عن كثب بالولايات المتحدة وتوجهات مصالحها الدولية و سياستها الخارجية. فجمع في هذا الكتاب عناصر النجاح التي يتطلع اليها كل كاتب يبتغي ايقاد شمعة للوعي و التثقيف العام.
هذا التأهيل العلمي و الخبرة العملية زانتها مناقب ذاتية و لطف انساني أصيل، فالسفير عماد مهنيا صميما ومثقفا رصينا و رياضيا مطبوعا ممن يألفون ويؤلفون ، و ممن يسعون برفقة الزمالة والصداقة الي غاياتها منشطا ومكرها، مع تدفق اجتماعي يغترف من ينبوع لا ينضب من الحس الانساني النبيل و الشفيف.
و حسبك ايها القاريء ان تجد في هذا الكتاب ما تبتغيه من معرفة، اذ بسطه كاتبه ليخاطب العقل و يتوخي الموضوعية هذا رغم ان ظاهرة الهيمنة الامريكية لا تترك لأي كاتب موقعا محايدا بل تدفعه دفعا حتي يتخذ موقفا بالانحياز او النقد. لكن يتميز هذا الكتاب بأنه يحلل الظاهرة في جذورها التاريخية و مهددات سيطرتها الراهنة دون ان يتخذ موقفا ايدولوجيا او سياسيا، لكنه يدرس الظاهرة بحياد اكاديمي بارد و يعدد مهددات الهيمنة الامريكية دون ان يتبني موقفا من التاريخ او يقع في فخ التوقعات الافتراضية. وهو كتاب يفيد الدارس الأكاديمي المتخصص في قضايا السياسة وموضوعات العلاقات الدولية، كما يفيد أيضا القاريء غير المختص الذي يبتغي المعرفة و الاستزادة من ينابيع الثقافة العامة.

تعليق واحد

اترك رد

error: Content is protected !!