ثقافة ومنوعات

الأديب الطيب صالح يكتب في حق العميد أحمد المصطفي

( أمير من أمراء هذا الزمان )

الطيب صالح

✍️ الطيب صالح

ما أجمل الوصف الذي أصبغه الأخ العزيز صلاح أحمد محمد صالح على أحمد المصطفى حين سماه غيثارة الزمن الجميل .
كان الزمان جميلا بالفعل مثل موسيقى أثيرية سابحة كخيوط الحرير في سموات السودان .
ألم تكن وجوه الناس في الأربعينيات و الخمسينيات الى غاية الستينيات – حتى الوجوه المكدودة المتعبة – عذبة مثل موسيقى هادئة عميقة الغور؟
ألم تكن عمائم الرجال و جلابيبهم حتى الرثة منها
وثياب النساء حتى الفقيرة منها و عطورهن السودانية المميزة و أصواتهن الطيبة المستحبة. بل كانت انغاما موسيقية متداخلة و كذلك كانت جلبة الناس في أسواقهم وضوضاء تلاميذ المدارس وسكون بنات المدارس وطوابير الأفندية وهم يهرعون الى مكاتبهم وهم يخرجون متعبين مكدودين في نهاية اليوم .
ألم تكن قعقعة عجلات القطارات وهي تجوب أرض السودان طولا
و عرضا و اضواء سفن النيل ليلا
وانعكاسات الضوء على سبائط التمر أول احمرار التمر
و على حقول القمح ابان حصاد القمح؟
ألم تكن الأنهار في انخفاضها وارتفاعها و هدوئها و عربدتها
وقطعان الابل
وقطعان الضأن
وقطعان البقر ؟
ألم يكن شجر التبلدي وشجر المنقة وشجر الطلح وشجر الأراك ؟
كان الأقوياء من تواضعهم مثل الضعفاء لشدة احساسهم بالكرامة مثل الأقوياء
و أمدرمان مثل عروس مجلوة
والخرطوم بحري
ومدني والأبيض
وجوبا وبورتسودان و كسلا و بربر
و مروي كأنهن وصائف عروس . ألم يكن السودان كله في ذلك الزمان الرغد ضيق ذات اليد مثال ينابيع من ألحان فرحة حزينة تتفجر من الأرض و تنزل من السماء؟
بل وكان من حسن حظ السودان أن الله انعم عليه بعدد من أبنائه رجالا
ونساء عظيمي الموهبة استقبلوا تلك المعاني السابحة و قطروها كما يقطر العطر في أغاني و ألحانا
وكان أحمد المصطفى في طليعة أولئك النفر وأصبح لأسباب كثيرة حادي الركب و قيثارة الزمن الجميل .
نما أحمد المصطفى مع نمو السودان
و اتسع فنه مع اتساع آمال السودان .
تحول من صبي من ريف العيلفون الى خلاصة حضارة أم درمان التي كانت خلاصة حضارة السودان لا شرقية و لا غربية ولا جنوبية ولاشمالية ولانوبية ولازنجية ولاعربية
هي مجموع ذلك كله .
لذلك فليس من المبالغة القول بأن أحمد المصطفى كان في المقدمة بين الناس الذين أعطوا السودان هويته من كتاب
و شعراء و مفكرين و منشدين
و مغنيين
كان في سمته الجسمانية
وأسلوبه في الحديث و سلوكه الذي كان – كما نعلم – مضرب المثل أحسن مثل لتلك الهوية السودانية ذات العناصر المتعددة . لا أذكر متى ألتقيت به أول مرة و لكنني كنت دائما من عشاق فنه
و حين تعرفت عليه من قرب في لندن عام سبعةوخمسين فرحت فرحا عظيما كأنني صرت من خلصاء أمير من أمراء الزمان و قد كان أحمد المصطفى بالفعل أميرا من أمراء الزمان .
كنت في تلك الأيام أقاسم صلاح أحمد محمد صالح السكن في لندن و جاءنا أحمد المصطفى موفدا من حكومة السودان كانت حكومة السودان تضع تلك الأيام للترفيه عن المبعوثين الكثيرين وربطهم بالسودان و تخفيف الآم الاغتراب عنهم . رفض صلاح أن يسكن أحمد المصطفى في (هوتيل) وأصر أن يسكن معنا في (تيرلوبوليس) و كانت تلك من ايادي صلاح الكثيرة علي أن وثق صلتي مع هذا الانسان البديع
كان بين صلاح أحمد وأحمد المصطفى ود قديم و ذكريات مشتركة تعود الى أيام صباهما في أم درمان وسنوات تألق نجم صلاح في الاذاعة .
كان صلاح يومئذ متوهج الموهبة الاذاعية والشعرية خفاق الفؤاد بنوازع الهوى وقد صنع من ذلك كله شعرا جميلا حوله أحمد المصطفى الى فن غنائي خالد .
أقام أحمد المصطفى معنا نحوا من شهر و ربما أكثر وكانت زيارته حدثا لا أظن أحدا من الذين حضروه يمكن أن ينساه .
في تلك الأيام كتب له صلاح كلمات الأغنية الشهيرة المفعمة بالحنين والشجن
نحن في السودان نهوى أوطانا
و ان رحلنا بعيد نطرى خلانا
أصبحنا صديقين منذ تلك الأيام
ومن جميل طبيعة أحمد المصطفى أن عاصفة الحب التي كانت تمتلىء بها نفسه كانت تفيض على من حوله فيصبح محبوه أصدقاء بعضهم البعض .
التقينا به كثيرا بعده ذلك في لندن و في أمدرمان
وفي الخرطوم
وفي الدوحة وفي باريس
كان كريما جدا معي لم يزل يحييني و يشيد بذكري في أحاديثه الصحفية و الاذاعية و التلفزيونية و كنت بدوري أكثر من تحيته و الاشادة بذكره و قد كان – رحمه الله – أكثر مني استحقاقا للحب و التقدير . أذكره في باريس عام ثلاثة وثمانين أو نحوه يغني باسم السودان في قاعة اليونسكو الكبرى.
كان أحمد المصطفى يتألق في مثل تلك المناسبات بوجهه الوسيم و ابتسامته الوضيئة ودقة عوده المميزة .
في تلك الليلة طرب العرب
و الأفارقة
والأوربيون
والأمريكان
و اللاتينييون.
فقد نفذت الى أفئدتهم تلك المعاني السودانية المرهفة التي بلورها أحمد المصطفى في صوته البديع . أذكره في دار أخي فتح الرحمن البشير في الخرطوم .
لا أزور السودان الا و يكون هو مسك الختام في دار ذلك الانسان النبيل محاطا بمحبيه
و عشاق فنه .
تلك الأماسي كانت أكثر شيء يجعلني أحس بأن السودان لا يزال بخير وأن السودان الذي مثله أحمد المصطفى لا يزال كحاله لم يتغير .
أذكره في مستشفى (تشيرنق كروس) في لندن بعيد انتفاضة رجب – المباركة – و قد كدّر مرض أحمد المصطفى على كثيرين الفرحة بذلك الحدث العظيم .
كان أحمد المصطفى راقدا على سرير المرض يتحشرج حشرجات الموت و قد ظننا كلنا أنه لن يقوم من رقدته تلك .
في غرفة الاستقبال المجاورة كان يجلس صديق عمره المرحوم سعد أبو العلا في جمع من محبي أحمد المصطفى .
كان اكثر حزنا ..
أنه يفقد رفيق صباه و شبابه
وكهولته..
ويا سبحان الله قام أحمد المصطفى من رقدته و لم يلبث أن مضى سعد أبو العلا الى لقاء ربه . تعافى أحمد المصطفى لكنه لم يستعد ذاكرته وقد زرته تلك الأيام مع أخي فتح الرحمن البشير .
كان هو .. هو
ولكنه لم يتعرف علينا .
ونحن معه جاء وفد من السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء ليبلغه تحيات السيد الصادق المهدي و تمنياته له بالشفاء و لشدة دهشتنا رد عليهم أحمد المصطفى ردا واضحا باسلوبه الدمث المهذب و حملهم تمنياته للسيد الصادق المهدي بالنجاح وأن يتضاعف جهوده في خدمة السودان و يكون حريصا على مصالحه .
عاش رحمه الله بعد رحيل صديق عمره سعد أبو العلا زهاء الخمسة عشر عاما ولعله لم يدرك وهو في تلك الغيبوبة أن صديقه قد رحل اذ كانت من نعم الله عليه.
صمت حين بدا أن السودان ليس هو السودان الذي لهج بذكره و غنى بأفراحه وأماله
و طموحاته
وعثراته
وانتصاراته وكأنه صار سودانا اخر .. انما السودان الذي صاغه أولئك النفر الأفذاذ وفي مقدمتهم أحمد المصطفى بحناجرهم و أعوادهم و كلماتهم و ريشاتهم ربما يستعيد حقيقته المستورة إن عاجلا أو آجلا ..
ولن يطول الانتظار
…..
رحمهم الله جميعا

اترك رد

error: Content is protected !!