د. نهلة صالح إسماعيل
هذا العنوان إستعرته من كتاب “إغتصاب العقل” وسيكولوجية التحكم في الفكر للكاتب الهولندي/ امريكي جوست ابراهام ماوريتز ميرلو طبيب ومحلل نفسي.
ما جاء في احداث مدني وما تبعها من مجريات الأحداث التي اثارت قلق وخوف وذعر المواطنين، وليس في مدني فحسب بل في جميع أرجاء البلاد وذلك للحالة الإعلامية المكثفة التي تلتها لترهيب المواطنين، الأمر الذي أدى لتهجير كثير من الأسر في مدني وفي عدد من الولايات الأخرى قسراً وقهراً من بيوتهم وارضهم وترك ممتلكاتهم والهروب تيها إلى المجهول وهو ما قصده الإعلام المغرض لزيادة إثارة البلبلة والفوضى لشئ في نفوس صانعيه.
تقاطعت مجريات الأحداث مع ما جاء به الكتاب رغما عن عمر الكتاب الذي تجاوز السبعين سنة من نشره. يشرح الكتاب ويوضح ما تفعله بعض السياسات الإرهاببة وكيفية إستغلالها لتدفق المعلومات سواء كان ذلك عبر الميديا أو غيرها في تشكيل فكرنا وإستغلال العقول كآلات تنفيذية لما يبتغون وذلك من خلال بث معلومات تساعد في تغير نمط التفكير والسلوك.
ما أثارني لكتابة هذا المقال هو دخول الجنجويد الدعامة لمدينة ودمدني الباسلة، وبالرغم من ان الدخول لها لم يكن سقوطا او إحتلالا كما زعموا بل كان نتيجة لما أشار اليه بيان الجيش ( بأنه تحت التحقيق ) فتم دخول مدني سهولة وليس عنوة و إنما تسليم مفتاح كما قيل.
هذا الوضع تم إستغلاله بشكل سئ ومرعب من قبل محرك الإعلام المغرض الذي يصرف الكثير من الأموال والإستعانة بالخبراء النفسيين لفهم الديناميكيات النفسية الكامنة في التغير الفكري والسلوكي وتأثيرها عليه من خلال وسائل التواصل الإجتماعي لترويع الناس والمواطنين.
فانتشرت حالة من الذعر والتهويل والتخويف في كل ولايات البلاد حتى الآمنة منها لم تسلم من تلك الحالات الترويعية والترهيبية بذاك الخوف الذي لا يعلمه إلا من عاش تلك الايام الثقال رغما عن قلتها ولكنها كانت كافية للتدمير النفسي وما يتبعه من عدم إستقرار أسري ومجتمعي..
ونستعرض في هذه السانحة بعض ما صوره الكاتب في الكيفية التي يتم بها إغتصاب العقل البشري الحر وتحويله إلى آلة إستجابة اوتوماتيكية من خلال سيكولوجية التحكم وغسل الدماغ وتشويه العقل.
اشار الكاتب إلى أن هذه الظاهرة تدور حول التلاعب بأفكار الناس ومعتقداتهم ومن ثم تجريدهم من إستقلاليتهم وإرادتهم الحرة. وتعمل السيطرة على العقل من خلال إستغلال نقاط الضعف فيه و تشكيل العمليات المعرفية الجديدة للأفراد ويتم ذلك من خلال إستخدام تقنيات الإقناع كالتلاعب بالمعلومات والتاثير والضغط الإجتماعي بهدف خلق شعور من التبعية او الولاء الأعمى وقمع التفكير النقدي من خلال زراعة معتقدات ومعلومات خاطئة. ولهذا من المهم والمهم جدا ان نبقى يقظين ونسعى جاهدين في الحصول على المعلومات من مصادرها الموثوقة وتقييم الحجج بشكل نقدي حتى نتمكن من مقاومة محاولات السيطرة على فكرنا وعدم تشويش عقلولنا، ايضا ومن الضرورة على جهات الإعلام الحاكمة من تمليك المواطن المعلومة التي تساعد على هدوءه وإستقراره في مثل هذه الظروف الحرجة، حتى لا يقع فريسة وضحية لتلك الشائعات المضللة حتى لا تتمكن من الإستفراد بالنشر والإعلان الذي حتما سيكون خصما على إستقرار المواطن والمجتمع ومن ثم الدولة ككل.
ما جاء به الكاتب جوست ميرلو لا يبعد كثيرا عما نعيشه اليوم كمجتمع سوداني يعاني ويلات الحرب وتشتت الفكر. حيث اشار ميرلو على ضرورة اليقظة والحذر في تقصي المعلومات ومصداقيتها حتى لا يقع الفرد والمجتمع فريسة لإغتصاب العقل فتصير كالدمي في ايدي العدو ليشكل قرارات ومسارات الافراد والمجتمع وذلك من خلال السيطرة التي يصنعها بالتخويف والترهيب من خلال البث الإعلامي والتكرار اليومي للمعلومات المشكوك في صحتها عبر الميديا والتلفاز والذكاء الإصطناعي حتى يتسني التحكم في الافكار وإن رفضها العقل . ويستشهد ميرلو لذلك بمثال، للنازيين الذين كانوا قادرين في كثير ٠من الأحيان من تحويل الشجعان من مقاتلي المقاومة والمعارضة إلى متعاونين وديعين. وذلك عند إستغلالهم اليات الحماية الذاتية التي عادة ما تكون اقوى من الولاء للممتلكات او الارض او الوطن، وعندما يكون على الإنسان ان يختار بين الموت وبين الهروب او الإستسلام فإن آليات الحفاظ على الذات ستعمل بطرق عديدة وستجد عدد من المبررات إما للهروب كما يفعل الناجون والنازحون من الحرب او الإستسلام كما فعل المقاتلين النازيين عندما تحولوا لمتعاونين وديعين.
وتكمن الخطورة في اغتصاب العقل ليس فقط في السيطرة عليه واستغلاله فحسب، بل ايضا تساهم في تهيئة المناخ السام المرضي الذي يكون له تأثيره السلبي على المدى القريب والبعيد، و بالضغط على تلك الشعوب والأفراد المغتصبة حرائرهم ومنازلهم واموالهم وممتلكاتهم ومن ثم عقولهم، فكيف لهذه الشعوب ان تشفى وتستقيم ، ذلك العقل الذي كرمه الخالق، فكيف لأمة عاشت هذا الإستبداد والعناء أن تنمو وتقوى وتزدهر.