الرأي

أمين حسن عمر: أم على قلوب أقفالها؟! (2-2)

✍️ جمال عبد الرحيم صالح
 
لقد أفاد الأستاذ أمين، في إطار رده، للأستاذ المحبوب، بأن “عالم الاسلام قد صحا حياة وفكرا وأصبح الغرب يحسب له ألف حساب”، ودليله في ذلك أن الإسلام قد صار “أكثر الأديان واسرعها انتشارا في ديار الغرب ولو كانت أفكار الاسلام كما يعيشها المسلمون ويقدمونها ميتة كما يزعم المحبوب لما أحيت قلوب مئات الالآف والملايين في أوربا وأمريكا بعقيدة الدين الحق وقيمه وأنموذج حياته”.
واضح من حديث الأستاذ أمين، أن معياره لصحوة الإسلام حياة وفكرة، بشكل أصبح الغرب يحسب له ألف حساب، هو أن الإسلام يعتبر أسرع الأديان انتشاراً في الغرب.
لا نشك فيما قاله حول سرعة انتشار الإسلام في الغرب، وهو معيار يعبر بالتأكيد عن عظمة الإطار القيمي والأخلاقي الجاذب للإسلام، بيد أنه أبعد عن أن يمثل “صحوة” في الحياة والفكر. ليت الأستاذ أمين ينفحنا بدليل واحد يؤيد إدعائه بـ “ما أحرزه عالم الاسلام من تقدم في عالم الأفكار نصر كبير وتقدم ظاهر”؛ حيث أن الواقع يشير إلى أن البون السحيق الذي يفصل المسلمين عن بقية العالم في مجالات الحياة كافة، من الإتساع بحيث لا يعطي إدعائه هذا فرصة للإعراب!

لكن، ولصالح النقاش، دعونا نمسك مؤشراً واحداً للدلالة على “موات” المسلمين ذلك الذي أفزع الأستاذ أمين، وجعله مركزاً لقضيته الأساسية مع الأستاذ المحبوب؛ ولنطالع قائمة الفائزين بجائزة نوبل في العلوم التطبيقية باعتبارها من المؤشرات الأساسية الدالة على صحة وعافية وتقدم المجتمعات. هل يعلم الأستاذ أمين، أن عدد العلماء المسلمين الفائزين بجائزة نوبل في العلوم التطبيقية منذ بدايتها قبل 120 عاماً وحتى الآن ثلاثة فقط، مقارنة بمئة وخمسون يهودياً نالوها في ذات النطاق علماً بأن عدد اليهود في كامل الكرة الأرضية لا يتعد الـ 15 مليوناً مقابل حوالي 2 مليار مسلم؟ وهل يعلم أن هنالك 14 من العلماء في جامعات ومراكز البحث في دويلة اسرائيل التي لا يتجاوز عدد سكانها من اليهود الـ 7 مليون فازوا بذات الجائزة؟ وهل يعلم أنه وحتى في العلوم الإنسانية، الإقتصاد تحديداً، نال هذه الجائزة 35 يهودياً مقابل جائزة واحدة في كل العالم الإسلامي؟ إن كان هذا لا يعبر عن “موات” عالمنا الإسلامي، فما الذي تُعبِّر عنه “حياته” إذاً؟ واذا كانت جائزة نوبل فى أوهام كثير من الاسلامويين هى من كيد الغرب الذى يكيل بمكيالين فما هى الجائزة التى ابدعها المسلمون واضحت عالمية يمكن أن يقاس عليها ؟
 
إن المسئول عن هذا “الموات” ليس المحبوب أو أصدقائه الجدد، وإنما هم القادة الروحيين في العالم الإسلامي، الذين يقفون سداً منيعاً بين المسلمين والأخذ بأسباب التقدم، عبر عرقلتهم لمحاولات التجديد في دينهم، وقهرهم للعقل، وتكبيلهم بقيودا وضعها أناس من لحم ودم قبل أكثر من ألف عام. من المُحيِّر فعلاً في هذا البلد المنكوب، أن تكون جوهر تهمة الأستاذ أمين للأستاذ المحبوب هي مناداة المحبوب بالحداثة والتجديد، رغم أن ذات “التهمة” كانت توجه لناقده! ورغم أن الناقد نفسه، يُعتبر تلميذاً نجيباً، يوماً  ما، لأستاذه الترابي، الذي إجتهد في أخريات أيامه ليحرر العقل السوداني المسلم من الخرافة، وأن يخفف عنه غلواء المتشددين، حيث كمثال طالب بأن يتبنى  التشريع السوداني حق تزويج المرأة لنفسها، ذلك الذي أتاحه لها عظيم الأئمة، أبي حنيفة؛ فوقف له مُفشِلين رأيه رهطا من إخوة الأستاذ أمين، الذي يتحدث عن صحوة مزعومة للمسلمين تأتي بها الحركة الاسلامية، تلك التي أصبح فيها أمثال عبد الحي يمثلون أهل النصح والارشاد فيها!

من المحير أيضاً، أن الأستاذ أمين يلوم الأستاذ المحبوب على استشهاده بمالك بن نبي، بينما جوهر ما أراد أن يقوله المحبوب، هو ما يقول به أمين نفسه: “مالك لم يقل ما ظنه المحبوب قاله بل قال  بذات الدعوة التي تقول بها الحركات الاسلامية ان يترك المسلمون تأويلات العصور التي ناسبت زمانهم ويذهبوا للقرآن لينشئوا تأويلا مناسبا لزمانهم و مكانهم”، فما هو التجديد وتمكين الحداثة، إذاً، غير أن يذهب المسلمون للقرآن لينشئوا تأويلاً مناسباً لزمانهم ومكانهم؟!
 
من غرائب الإنقاذ، التي لاتنقضي، ذلك الإعجاب الذي يكنه الأستاذ أمين ورهطه، بمن في ذلك فقهاء الحركة الإسلامية من أمثال عبد الحي يوسف، الإعجاب بتجربة التطبيق الإسلامي في تركيا، تلك التي جعلوها مكة أخرى لهم، ترحالاً واستقراراً. تركيا أردوغان التي لا يحلم “فسقة” السودان و “ملاحدته” من الوصول لحالتها في إباحة الموبقات من خمر ودعارة ومثلية جنسية محمية ومُشجَّعة بالقانون؛ حيث تقابلك تلك الموبقات منذ لحظة إعتلائك طائرها الميمون، إذ يتنادى عليك مضيفاتها الحسان حاسرات الرؤوس يحملن كؤوس نبيذها وخمورها لضيوف تركيا المسلمة! دع عنك حديث الخلاعة والخمر، فأردوغان الطاهر والمحبوب من قِبَلِهم ألغى حكم الإعدام المنصوص عنه شرعاً حتى يجد له موطيء قدم في الاتحاد الاوروبي، واستنكف عمداً، وهو القادر على ذلك، تعديل قانون الأحوال الشخصية الذي يُحَرِّم تعدد الزوجات بتركيا. فأي بشر هؤلاء الذين يحدد إتجاه تفكيرهم من هو مثل الأستاذ أمين حسن عمر، ولا يشعرون بالتناقضات الحارقة تنتاش عقولهم وقلوبهم، أم على قلوبهم أقفال، وبآذانهم صمم؟

وليأذن لنا الأستاذ أمين بأن نطرق له أبواب الفكر والفقه تلك التي قامت من أجلها ثورة المصاحف، بسبب محاولات الجمعية التأسيسية الأخيرة إجراء تعديلات على القانون الجنائي الذي يعتبر ذروة سنام الحركة الإسلامية، والذي من أجله رفعت شعارات “شريعة شريعة ولا نموت الإسلام قبل القوت”، ومن أجله تخضبت أرض الجنوب بدماء شباب شجعان في أزهى سنوات العمر. وللأسف فإن كل المؤشرات تؤكد أن الأمر لم يكن سوى تجارة بالدين، وشحن لأنفس الأبرياء لتحقيق أهداف وتطبيق مبادئ، تخص ساسة وجدوا أن أقرب سبلهم للوصول للحكم، هو تعبئة المشاعر الدينية وخلق الرعب بأن الدين في خطر؛ وهو أمر أوضح فعلاً بأن هؤلاء الساسة كانوا هم الخطر على الدين.

عند تناولنا للفقه السياسي، المُصْطَلَح عليه بالسياسة الشرعية، والذي يشمل الأحكام الخاصة بالحكم والقضاء، سنجد أن التجربة الإسلاموية في السودان، قد تجاوزت أصوله بأكملها تقريباً، جاعلة فروعه معلقة في الهواء بلا سيقان. فقد تبنت الحركة الاسلاموية كا أوضحنا في الجزء الأول من مقالتنا هذه، أن منشأ الحقوق والواجبات في دولة الإنقاذ هو المواطنة وليس الدين أو العرق أو النوع؛ وما إلى ذلك من مبادئ تتعارض جذرياً مع الموروث الفقهي، الذي زعم آل الأستاذ أمين أنهم حماته وحراسه. لذا سقط من عناوين الحركة الإسلامية الكثير مما كان من ثوابت الفقه السياسي التقليدي، كفقه الولاء والبراء الذي تعرَّضنا له في الجزء الأول من مقالتنا هذه، وفقه الجهاد، وأحكام الغنائم والخراج، فضلاً عن فصول باكملها فى كتب الفقه عن العبيد والاماء والجوارى وما إلى ذلك من أحكام ترتبط بمجتمع القرن الخامس الهجرى قبل ألف عام ثم بآلة الدولة. صحيح، أنه يجرى أحياناً استخدام بعض جوانب هذا الفقه، مثل فقه الجهاد، في أمور التعبئة والتحشيد السياسي، لكن الصحيح أيضاً، أن هذا المنتج ليس له وجود في منظومة الحكم نفسها من دستور وقانون وما إلى ذلك.
تجدر الإشارة هنا، إلى أن الحركة الاسلامية، التي يعتبر أمين حسن عمر مفكِّرها الأبرز بعد الترابي، قد استغنت عن كامل هذا الفقه، بما في ذلك مبدأ الحاكمية الذي كان عماد دعوتها من قبل، وذلك بصمت لا يليق بالتنظيمات المحترمة!
وبذات الطريقة التي تم التخلص بها من الفقه السياسي، فقد تنصّلت الحركة الإسلامية أيضاً عن الكثير من ثوابت الفقه الجنائي، وبهدوء مريب، وبدون أن يقدموا طرحاً نظرياً يبرر ذلك! نقدم فيما يلي نماذج محدودة على ما تم التنصل عنه، قاصدين أن نختار من تلك النماذج اكثرها شهرة، وأوسعها انتشاراً في التصورات الشعبية عن الشريعة الاسلامية:

  1. من المُجْمَع عليه بين علماء المذاهب الأربعة، وبدون استثناء، أن بتر كف اليد هو عقوبة السرقة إذا استُوفى شرط النصاب (حوالي 4.25 جرام من الذهب)، مع وجود خلاف طفيف بين الفقهاء في مقدار هذا النصاب. أما القانون الجنائي السوداني لعام 1991، القائم بالكامل على الشريعة كما يقول واضعوه، فقد أضافت المادة 172 (ب) منه، والتي تختص بتحديد موجبات إسقاط الحد، شرطاً آخر للإسقاط، وهو: “إذا كان الجاني في حالة ضرورة ولم يأخذ من المال إلا بما لا يجاوز النصاب فوق كفاية حاجته أو حاجة من تجب عليه نفقته للقوت أو العلاج”. هذا الشرط “فوق كفاية حاجته أو حاجة من تجب عليه نفقته للقوت أو العلاج”، والذي لم يرد في فقه المذاهب الأربعة، يجعل من المستحيل عملياً تطبيق هذا الحد، حيث أن تقدير حاجة السارق وحاجة من تجب عليه نفقتهم للقوت والعلاج، مسألة تخضع للتقدير الذاتي من جانب السارق، خاصة عندما نضع في الاعتبار أن المادة القانونية المشار إليها، لم تضع قيداً زمنياً أو حدوداً كَمِّية للمسروق تفرض على السارق أن لا يتجاوزها. لا يفيد كثيراً القياس بسابقة عدم قطع عمر بن الخطاب لغلمان حاطب بن بلتعة، لأنهم سرقوا بسبب تجويع سيدهم لهم، وليس لأنهم لم يستوفوا حاجتهم وحاجة من تجب عليهم نفقتهم للقوت أو العلاج! وإن كان الأمر يختلف عن ذلك، لما غاب عن فقهاء المذاهب الأربعة الاستناد عليه في تحديدهم للعقوبة. وحتى ان كان هنالك رأياً شاذاً يقول بغير ذلك، فالشذوذ لا يعتد به، وإلا كان شرب بعض انواع الخمر جائزاً، وهو أمر معلوم قال به بعض الأحناف.
  2. من المعلوم والمتفق عليه بدون استثناء أن الدية الكاملة، وهي المقابل المادي عن إزهاق الروح البشرية، تساوي في الشريعة ما مقداره 100 رأس من الجمال؛ وهو ما سار عليه القانون الجنائي السوداني لعام 1991 في المادة 42 التي عرَّفَت الدية بأنها 100 من الابل أو ما يقابلها نقداً وفقاً لما يصدره رئيس القضاء بين كل فترة وأخرى. أما ما قدره رئيس القضاء السوداني، في آخر تعميم له بخصوص الدية، وهو التعميم رقم 4/ 2016، فهو 330,000 جنيه سوداني! أي حوالي 600 دولار أمريكي بأسعار اليوم 6 مايو 2022 بالسودان! أي أن قيمة الجمل المحسوبة لأغراض الدية في القانون السوداني تعادل 6 دولار أمريكي فقط! والأستاذ/ أمين لم ينبث ببنت شفة، حرصاً على مصالح شركات التأمين بالطبع، وليس انصياعاً لأمر إلهيّ!
  3. من المعلوم والمتفق عليه بين كل المذاهب الفقهية، فإن دية المرأة تعادل نصف دية الرجل، أي تساوي 50 من الجمال، بيد أن القانون الجنائي السوداني لا يفرق في الدية بين الرجل والمرأة.
  4. يبيح القانون السوداني، القائم على الشريعة كما يصفه واضعوه، شهادة الكافر على المسلم أو للمسلم، وذلك في مخالفة لإجماع كل المذاهب على عدم جواز شهادة الكافر بحكم الآية: “ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً”. يوجد استثناء وحيد ونادر، وفوق كل ذلك مُختلف عليه بين المذاهب، وهو قبول قلة من الفقهاء بشهادة الكافر على المسلم في حالة الوصية في السفر، وهي إذا احتاج المسلم إلى أن يوصي وهو على وشك الموت، وليس ثمة مسلم يشهد على وصيته إلا أهل الكفر؛ أما فيما عدا ذلك فلا تجوز شهادة الكافر على المسلم!

إن الأدلة على فساد نظام الإنقاذ وخلو تاريخه من أي إنجاز يستحق أن تصادر من أجله حيوات بشر، وتقسم بسببه أوطان، أكثر من أن يحتويها مقال عابر؛ كما أن خلو جرابها من كل ما يمت للفكر بصلة، لا يحتاج لبصائر نفاذة لإدراكه.

لقد حاولنا قدر استطاعتنا أن نهتبل فرصة نادرة، وهي الظهور المفاجئ لُمَنِّظر الإنقاذ ومفكرها الأساسي، منفوخاً ببقايا روح نفثها فيه الانقلاب، لنوضح من خلال هذه السانحة مستوى من يريد أن يحكمنا مرة أخرى، ومستوى العبث الفكري الذي لا يريدون الإقلاع عنه، والذي بسببه لم تغادر بلادنا عتبة ما قبل الاستعمار بعد.

اترك رد

error: Content is protected !!