أقاصي الدنيا / محمد محمد خير

أكملت 40 عاماً..!

محمد محمد خير


ظهيرة البارحة أحسست بتنميل في الروح و(خمَّة) في النفس، ودقات سريعة تركض من القلب، مصحوبة برياح تغطي كل أرجاء الجسد، من فروة الرأس حتى أقواس الأظافر. وبدا لي أن رأسي بدأ يفقد من مخازنه بعض السجلات المهمة، كتفاصيل صباي وغدوي ورواحي، لكن زوجتي فجأة نبهتني إلى أن هذا اليوم يصادف الذكرى الأربعين لزواجي الميمون، فتذكرت تلك الواقعة بكل تفاصيلها، ورضيت طائعاً ومختاراً بمشيئة الله.
التأبيدة في أدب القضاء تعني 25 عاماً، قضيتها بمودة ورحمة وزدت عليها خمسة عشر عاماً.
خلال هذه السنوات التي تجاوزت ربع القرن بعد حصدها اليوبيل الفضي وتتجه الآن نحو الذهبي، لم أشعر بالملل ولا الاستكانة ولم أبدل عقيدتي الواحدية، واكتفيت بهذه التجربة كأنموذج عاصم من التعدد، وغير قابل للتكرار، ولا يستجيب للانقسام على جوهره، وذلك أعلى درجات التجلي في مواجهة الصمدية، اللهم زد محمدك بذلك اليقين.
خلال السنوات الـ 40 عشنا معاً بالكلاكلة القبة، في غرفة من اللبن والآجر، كناية عن الطين، في (عنقريبين) بلحاف ومخدتين، وفي الفتيجاب بأسرة وغرفة نوم وكراسي حديد، هجرت قسرياً هذا الأثاث لعامين قضيتها بسجن كوبر، ثم تقاسمنا معاً أثاث شقة مفروشة في القاهرة لخمسة أعوام، اقترفت فيها إثماً عظيماً عندما اضطررت لصرف ذهبها لكي ندفع مصاريف الدراسة لأبنائنا.
لم تكن التحولات الإقليمية وقتئذ في صالح المعارضة بما انعكس سلباً على مصاريف الدراسة، وأذكر أنها كانت محتارة قبل أسبوع من فتح المدارس أبوابها، وكانت (الغويشات) تزين يدها اليمنى وتطرح لمعان الذهب كحل حاسم لمصروفات الدراسة، حينها سألتني: (الحل شنو؟)، فصرت أحدق في يدها اليمنى مكمن الذهب والحل، وأرمقها في نفس الحين بنظرة لا تخلو من التودد والمسكنة ـــ وذلك تكتيك باطش أفدته من الأحزاب العديدة التي انتميت لها ـــ أجبتها وأنا أوغل في الاستلاب: (الحل في يدك)، فنظرت ليدها اليمنى وودَّعتْ ذلك المعدن النفيس!!.
ثم عشنا معاً في ترنتو ودبي والدوحة، ويضمنا الآن منزل بحي الفردوس، أخفي فيه شيبي، وتخفي ابتسام الرضا لكوني ماضيا على طريق المسن في المنشط والمكره!!.
خلال هذه الفترة (شوَت وحمَّرت) آلاف الخرفان، واستقبلت مئات الأصدقاء، وأشرفت على بناء المنزل منذ أن كان خاطرة حتى أصبح مبنى. وأفردت جناحاً أمومياً مهيضاً غطت به ابنتها من زمهرير المنفى، وصقيع الثقافة الغربية حتى أكملت نصف دينها، وتتهيأ الآن لزواج ابنها الأكبر، رغم إحساسي بأنني الأصغر!!.
لا أدري لماذا اقترنت الذكرى الـ (40) بالموت والإحساس الأكثر عمقاً بأن رسالتي قد انتهت، فأنا منذ أشهر أحس بأن جسدي أصبح العدو الأول لروحي، حتى كدت أن أغادره، أحس به وجعاً وإنذارات مشؤومة حتى أكاد أن أقذف وجهي بفمي!!.
(النساء رياحينكم منذ كن/ أضاف ابن حزم/ وسر التفاتتكم نحو موج البداية/ أو ركضكم خلف ما يجعل الريح حرثاً لأرواحكم/ والسراب قرى للإقامة/ النساء اختبار الذكورة للموت/ والنساء روائح أرض مضت/ وحنين الغيوم إلى ما تصبب من ضلع آدم)، أهديت هذه الأبيات لزوجتي في عيدنا الثاني والثلاثين، وهي أبيات لمُضلِّي شوقي بزيع.

اترك رد

error: Content is protected !!