أضبط: السفارات الغربية في الخرطوم تنتحل لقب المجتمع الدولي .. عقيدة تفوق الجنس الأوربي وازدواج المعايير في بيان7 مارس
✍️ عبد الله عبيد الله
“نحن أعضاء المجتمع الدولي ثابتون في دعمنا للشعب السوداني لنيل هذه الحقوق”. هكذا اختتم بيان صدر في الخرطوم أمس الأول وقعه عدد من رؤساء البعثات الدبلوماسية الأجنبية عن أوضاع حرية الإعلام في السودان. ولأول أول وهلة يظن القارئ أن الموقعين على البيان يمثلون كل عضوية الأمم المتحدة ال193، باعتبارها أقرب تجسيد للمجتمع الدولي، لكنه سيفاجأ بأن الموقعين يمثلون فقط 13 دولة إللي جانب الإتحاد الأوربي. ومع ذلك اعتبر الموقعين أنفسهم ” أعضاء المجتمع الدولي”، حصرا، لأنهم استخدموا ما يعرف في النحو بالاختصاص: و هي عبارة ” أعضاء المجتمع الدولي”. فعندما تقول مثلا : نحن السودانيين-النصب هنا للاختصاص-، هذا يعني أن المصريين والأثيوبيين، وغيرهم من الشعوب ليسوا معنيين بما يرد لاحقا. وأن كل السودانيين مشمولون بما يرد. وعليه فاستخدام البيان لعبارة “نحن أعضاء المجتمع الدولي”، وليس نحن بصفتنا أعضاء بالمجتمع الدولي أو ما يشبهها، يعني أن عضوية المجتمع الدولي تنحصر في الموقعين!
سيزول العجب، أو ربما يزداد، عندما تطالع قائمة الموقعين لتجد أنها تضم فقط ممثلي السفارات الغربية في السودان (غرب أوربا وأمريكا الشمالية) وضموا إليهم، تكرما منهم، اليابان وكوريا الجنوبية، مع العلم أنه توجد بضع وستين بعثة دبلوماسية أجنبية في الخرطوم. فالقوي الغربية الكبرى بقيادة الولايات المتحدة ظلت تنتحل الحديث باسم المجتمع الدولي، وهي تقصد نفسها. ولذا فإن مصطلح”المجتمع الدولي” ظل محل جدل بين المختصين في العلاقات الدولية، باعتبار أنه مصطلح غامض وغير محدد التعريف. وبهذا يكون بيان البعثات الغربية أول محاولة لتعريف المصطلح.
إعتبار السفارات الغربية أنها وحدها، إضافة لاثنين فقط من حلفائها الأقربين من الدول المتقدمة، المجتمع الدولي، تجسيد لعقيدة تفوق وتميز الجنس الأوربي، أو ما يعرف ب “المركزية الأوربية” أو المركزية الغربية، بالإنجليزية Eurocentrism
وهي نظرة تعتبر أن أوربا وثقافتها وحضارتها ومصالحها يجب أن تكون لها الأولوية وأن انسانها مختلف عن الآخرين، وطبعا الدول التي يمثل الأوروبيون غالبيتها، مثل الولايات المتحدة، كندا، أستراليا ونيوزيلندا، تدخل ضمن التعريف حتى إن كانت خارج القارة الأوربية. وهكذا، كتب يوهان هاينريش زيدلر، في عام 1741، أنه «على الرغم من أن أوروبا هي أصغر القارات الأربعة في العالم، إلا أنها لأسباب مختلفة في موقف يضعها قبل كل الآخرين. . . . سكانها لديهم عادات ممتازة، فهم مهذبون ومثقفون في كل من العلوم والحرف.» ولا يبدو أن هذه النظرة قد تغيرت بعد ثلاثة قرون.
هذه النظرة تفسر تاريخ أوربا في اضطهاد واستغلال الشعوب غير الأوربية منذ تجارة الرق، والاستعمار، والحروب الأوربية التي اتخذت طابعا كونيا مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأنظمة الفصل العنصري في روديسيا وجنوب أفريقيا سابقا وإسرائيل حاليا. كما تفسر التمييز العنصري الذي يتعرض له لاجئو حرب أوكرانيا من غير الأوربيين. وفي هذا السياق يمكن فقط فهم لماذا يعتبر ممثلو 13 دولة غربية فقط أنفسهم أعضاء المجتمع الدولي، وينسون ال 180 دولة أخرى الأعضاء في الأمم المتحدة، بمن فيها الصين والهند، بملياراتهما الثلاثة من السكان، وكامل القارة الآسيوية باستثناء اليابان وكوريا الجنوبية، وكامل أفريقيا وأمريكا الجنوبية.
أما مضمون البيان نفسه فهو تعبير آخر عن عدم اتساق المواقف الغربية تجاه السودان وازدواج معاييرها. فالبيان يذكر أن السودان اتخذ خطوات مهمة لتحسين وضع حقوق الإنسان مثل التوقيع على التعهد العالمي لحرية الصحافة، وإلغاء قانون النظام العام”القمعي”، وتجريم ختان الإناث، مع أن هذا ظل جريمة لعقدين تقريبا، وان استيلاء الجيش على السلطة في 25 أكتوبر 2021 أوقف وأخر هذه الخطوات. ظلت هذه البعثات تتجاهل ما كان سائدا قبل ذلك التاريخ من تقويض متعمد للحكم الدستوري وسلطة القانون واستقلال القضاء والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان. فالمحكمة الدستورية عطلت عمدا منذ بداية 2020، ولم يشكل المجلس الأعلى للقضاء ومثيله للنيابة العامة على مدى أكثر من سنتين من توقيع الوثيقة الدستورية، ولا حتى البرلمان الذي كانت الأحزاب التي احتكرت الحكم الانتقالي لأكثر من عامين ستعين غالبية أعضائه، هذا فضلا عن الاعتقالات المتطاولة للسياسيين والأكاديميين ونشطاء المجتمع المدني دون محاكمة، والفصل السياسي لحوالي 10 آلاف من موظفي الخدمة المدنية، والقضاة ووكلاء النيابة والمستشارين القانونيين والدبلوماسيين وأساتذة الجامعات.
إذا كانت هذه البعثات تريد استدرك ما فاتها وتصحيح مواقفها غير المبدئية من الديمقراطية وحكم القانون ن واحترام حقوق الإنسان، فذلك أمر مرحب به على كل حال، لكن ما لا يمكن الترحيب به تعبيرات المركزية الأوربية والمعايير المزدوجة.