
1
حين قرأتُ بيان الاتحاد الأوروبي الذي صدر في أعقاب مقتلة الفاشر تذكّرتُ كتاب «القيم إلى أين؟»، وهو عبارة عن مجموعة مقالات وأطروحات فكرية حول أزمة القيم والقضايا الأخلاقية والثقافية في المجتمعات المعاصرة. يبحث الكتاب في أزمة القيم الإنسانية في عالم سريع التغيّر، ويطرح سؤالًا محوريًا: إلى أين تتجه القيم في القرن الحادي والعشرين؟ أتمنى أن أجد الوقت لاستعراضه كاملًا للسادة القراء، فهو كتاب جدير بالاطلاع.
يقول الكتاب إن حقوق الإنسان تحوّلت إلى شعار إعلامي أكثر من كونها ممارسة سياسية، وإن الديمقراطية أصبحت مجرد شكل خارجي، بينما السلطة الحقيقية في يد نخب اقتصادية وإعلامية، وحتى الدفاع عن المظلومين صار يخضع لأجندات الجغرافيا والمصالح. يلخّص الكتاب موضوع حقوق الإنسان بعبارة عجيبة: «حقوق الإنسان بلا إنسان… وزمن القيم بلا جذور».
2
هذا تمامًا ما حدث في الإبادة في الجنينة والفاشر، حين رأينا كيف تتهاوى القيم الغربية حين تصطدم بالمصالح. كان بيان الاتحاد الأوروبي تطبيقًا عمليًا حيًا لكل ما احتواه كتاب «القيم إلى أين؟» من أفكار وقضايا. تخلّت أوروبا في بيانها الأخير والمخزي عن القيم (حقوق الإنسان) التي طالما صدّعوا بها رؤوسنا.
البيان الأوروبي الذي صدر في (20 نوفمبر 2025) لم يذكر أي دولة متورطة في دعم الميليشيات، على الرغم من كل التقارير الدولية التي أثبتت إرسال السلاح للمليشيا الإماراتية. كما عجزت أوروبا العجوز عن وصف الجريمة كجرائم إبادة جماعية، ورفضت تسمية الإمارات بعد ضغوط مباشرة من وفد دبلوماسي إماراتي حضر جلسة التصويت. بل إن بعض النواب وصفوا ذكر الإمارات بأنه “خط أحمر”.!!
قال البيان: «ندين جميع الجهات الخارجية التي تزود الأطراف بالسلاح أو الدعم العسكري» — دون ذكر أسماء.
تصوّر هذا! ذات الاتحاد الأوروبي الذي أدان روسيا لأنها سلّحت مرتزقة فاغنر، يتردّد الآن في إدانة الإمارات رغم الأدلة الموثوقة بدعمها للميليشيا. لماذا؟ ببساطة لأن روسيا عدو… والإمارات مستثمر. ولا علاقة في كلا الحالتين بأي قيم تؤمن بها أوروبا؛ إذ لا توجد نهائيًا. فهي ليست قيمًا، بل زينة للهيمنة والخداع.
3
اختارت أوروبا الوقوف إلى جانب الإمارات، واختارت مصالحها على قيمها التي كانت — والتي صدّعوا بها رؤوسنا عشرات السنين. اختارت أن تبيع دم السودانيين رخيصًا. ليس بالضرورة أن تعبّر أوروبا عن المآسي التي حاقت وتحيق بالشعب السوداني، ولا أن تقف بجانبه، إنما العار هو التستّر على المجرم الحقيقي.
ولكن ليس في الأمر عجب… ففي هذه الأيام يجري التفاوض بين الإمارات وأوروبا على اتفاق تجارة حرة تم إطلاقه في 2025، وعلى خلفية تجارة غير نفطية بينهما بلغت 67.6 مليار دولار (2024)، وبذلك فهي ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي في الخليج.
تمتلك الصناديق الإماراتية أصولًا هائلة في أوروبا، تُقدَّر بنحو 120–140 مليار يورو على الأقل، إضافة إلى أن الإمارات لاعب رئيسي في الموانئ والمطارات والعقارات والمال الأوروبي. لذا فإن الصمت الأوروبي لم يكن بريئًا — كان قرارًا سياسيًا لحماية قيم السوق، لا حقوق الإنسان. قيم ثمنها عشرات المليارات… وهي ثمن الدم المراق هناك في دارفور وكردفان.!!
هم يدركون أن أيّ تسمية رسمية لدور الإمارات في حرب السودان كانت ستؤدي إلى تجميد صفقات أسلحة، وتعليق مشاريع استثمارية ضخمة، وتهديد استثمارات «موانئ دبي العالمية»، ولذا باعوا دم السودانيين رخيصًا في بازار السياسة العالمية.
4
لم يكتفِ النفاق الأوروبي بخيانة القيم، بل ذهب إلى التخلي عن الضحايا وإدمان الأكاذيب؛ إذ يتحدث البيان الأوروبي المذكور عن أسوأ أزمة إنسانية يشهدها العالم حاليًا، في حين تتصاعد الدعوات منذ بداية العام الحالي للتدخل الإنساني في أسوأ أزمة إنسانية في العالم.
قدّم الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء €800 مليون يورو من المساعدات الإنسانية والتنموية العاجلة فقط، في وقت تطلب فيه خطة الاستجابة الأممية الإنسانية لـ 2025 — بحسب OCHA — حوالي 4.16 مليار دولار لتغطية احتياجات نحو 20.9 مليون شخص.
وبحسب بيانات نهاية سبتمبر 2025، فإن التمويل المنسّق للمساعدات المسجَّل بلغ نحو 1.06 مليار دولار فقط مقابل الاحتياج الكامل، مما يعني أن الفجوة تبلغ ≈ 3.1 مليار دولار (أي نحو 75٪ من المطلوب لم يُموَّل بعد).
وفي برنامج الغذاء العالمي (WFP) — وفي ناحية أخرى — أعلن البرنامج، بحلول سبتمبر 2025، عن وجود نقص تمويلي بقيمة 589 مليون دولار لعملياته المخططة داخل السودان. وأشار تقرير الطوارئ للفترة (نوفمبر 2025 – يناير 2026) إلى أن النداء الإنساني في تلك الفترة كان «مموَّلًا جزئيًا للغاية»، مما يعكس أن جزءًا كبيرًا من الاحتياجات لا يزال بلا تمويل.
5
لم يعد لأوروبا ما تقدّمه للعالم. إفلاسٌ كامل ماديّ وقيميّ. أصبحت أوروبا تابعة سياسيًا واقتصاديًا للإمارات، تفعل بها وبقيمها ما تريد. تدّعي حماية حقوق الإنسان وتعجز عن إغاثة الضحايا، وتصمت وتغطّي على المجرمين.
أي قيمة تلك التي تبقّت لأوروبا؟ على ما يسمّى بالمدنيين والديمقراطيين أن يكفّوا عن تسويق قيم بلغت أقصى انحدارها في زمن التفاهة هذا.




