يترقب الكثيرون سواء المنتمين للحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) أو غيرهم كُثر، عودة السيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل)، خلال الشهر الحالي، إلى السودان، بعد كثير تأجيلٍ، وطول غيابٍ! فترقب العودة المنتظرة، لحسم إشكاليتين أساسيتين، الأولى: صراع الأخوين السيدين جعفر والحسن محمد عثمان الميرغني، إذ أن كليهما يُعلن نفسه نائب رئيس الحزب، ويلتف حوله ثلة من قيادات الحزب يُزكون -قصداً أو غير قصدٍ- أوار ذاكم الصراع بين الأخوين، دون حسمٍ من سماحة والدهما، فظن البعض -وليس كل الظن إثمٌ- أن والدهما، جعل الأمر من المسكوت عنه، ولكنه أرسل إشاراتٍ بيناتٍ، بدعمٍ خفوتٍ لجعفرٍ على الحسن! وقد حير هذا الصراع الأخوي حول نيابة رئاسة والدهما للحزب، غير المحسوم بنصٍ لا لبس فيه ولا غموض، الكثيرون داخل الحزب وخارجه!
وفي رأيي الخاص، أن السيد محمد عثمان الميرغني ظل يُعالج صراع ابنيه بشئٍ من الحكمة مستمدة من حكمة الوالد الأكبر سماحة السيد علي الميرغني – يرحمه الله – الذي كان يُعالج خلافاته مع دهاقنة سياسي حزبه، بفقه شعرة معاوية بن أبي سُفيان. فشعرة معاوية بن أبي سُفيان -يا هداك الله- هي عبارة اصطلاحية، وأصبحت من الأمثال الدارجة على ألسن الناس، يُقصد منه الموقف غير الثابت، والذي يتبدل بين اللين والشدة بناءً على موقف الطرف الآخر، من أجل إبقاء الوضع في المنتصف. ومنشأ هذا المثل هو ما يُنسَب لمعاوية بن أبي سُفيان، أنه حينما سُئل: كيف حكمت الشام أربعين سنة، رغم القلاقل والأحداث السياسية المضطربة، قال: “لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدوها خلّيتها وإن خلوها مددتها”، وفي روايةٍ أُخرى “.. لأنهم إن شدوها رخيتها وإن رخوها شددتها”. وحجاجي في ذلكم، الخلاف السياسي الشهير بين السيد علي الميرغني والسياسي المشاكس يحى الفضلي (الدينمو) الذي كان يصدع في خطبه السياسية، وتصريحاته الصحافية، بالهجوم على راعي حزبه، ب”الكهنوت مصيره الموت”! مما دفع السيد إسماعيل الأزهري إلى نُصحه بمصالحة السيد علي. لأن سماحته لم يُبارك قائمة الأزهري الوزارية التي تضمنت اسم الدينمو يحى الفضلي! فعمِل بتلكم النصيحة، وذهب إلى سماحته للمصالحة، فقال له سماحته، قولاً لطيفاً تصالحني في الخفاء وتُهاجمني في العلن! ولكن بحكمته المعهودة صالحه، ومن ثَمَّ بارك القائمة التي كان فيها الدينمو وزيراً. فهكذا أيضاً تدرج السيد محمد عثمان الميرغني في صراع ابنيه على نيابة رئاسته للحزب، ميلاً لجعفر، إذ شهد أداء قسم أربعة من مساعدي رئيس الحزب الذين عينهم، وبجانبه ابنه جعفر. ولكن الحسن لم يُذعن لهذه الإشارة بالتنازل لأخيه، ظل يدعي أنه نائب رئيس الحزب! فما كان من والده إلا أن يُسمي أخيراً ابنه جعفر نائبه، لحسم التفلتات في الحزب، ومن بينهم أخوه الحسن! ويذكرنا هذا، بحسم الخليفة العباسي هارون الرشيد أمر خلافته بين ابنيه محمد الأمين من زوجته زُبيدة، وعبد الله المأمون من جاريةٍ فارسيةٍ اسمها مراجل.
أما الأمر الثاني في انتظار عودة السيد محمد عثمان الميرغني إلى السودان، لحسم توحيد 13 حزباً اتحادياً، تفرقوا بين اليمين واليسار، وتجاهلوا أهمية الوسطية التي كانت ديدن الحزب الذي يُعد من أحد أعرق أحزاب السودان، فقد تأسس فعليا عقب اندماج عدد من الأحزاب الاتحادية تحت مسمى الحزب الوطني الاتحادي في القاهرة عام 1953. لعل في عودة السيد محمد عثمان الميرغني المنتظرة، تتحقق بعض تشوقات الاتحاديين – قيادات وقواعد – في الوحدة والوسطية!
أخلص إلى أن مَنْ شاهد خطاب السيد محمد عثمان الميرغني، تأكد نفي بعض الشائعات التي تُردد عن مرضه، وثبت من خلال تلكم المشاهدة، أنه بخير وحاضر الذهن. وكان يتحدث بطلاقةٍ ووضوحٍ، فلم يغب عنه، الإشارة الذكية في خطابه إلى تذكر اتفاقية السلام التي وقعها سماحته مع الدكتور جون قرنق في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 1988 في أديس أبابا. وقد تلكأ السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة ورئيس الوزراء آنذاك، في الموافقة عليها غيرةً منه ومن حزبه، إذ اشترط إجازة الاتفاقية في الجمعية التأسيسية (البرلمان) وهو يعلم أنها لن تُجاز هناك، لرفضها من قبل الكثيرين من حزبه، وكل أعضاء حزب الجبهة الإسلامية القومية، لأنها دعت إلى تعطيل الشريعة الإسلامية، إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري، فها هو السيد محمد عثمان الميرغني بعد 34 عاماً حسوماً، يُعلن رفضه للتسوية التي قادها حزب الأمة القومي مع ثلاثة أحزابٍ يساريةٍ صغيرةٍ! ووجد خطابه، ورفضه للتسوية، والنأي عن التدخلات الأجنبية في الشأن السوداني، وإشادته بالقوات المسلحة التي وصفها بالحارس الأمين على وحدة الوطن و استقراره، صدىً طيباً، وترحاباً واسعاً من السودانيين.
ومن المتوقع ألا يقتصر استقبال عودة السيد محمد عثمان الميرغني إلى السودان خلال الأيام القليلة المقبلة، على أهليه وأعضاء حزبه وجماعة طريقته، بل سيشارك معظم السودانيين في ذلك. وحسناً فعل السيد طه علي البشير رئيس اللجنة العليا لاستقبال السيد محمد عثمان الميرغني، بتوجيه الدعوات لكل أفراد الشعب السوداني، ومن محاسن مصادفات هذه العودة وتبريكاتها، أن أعادت إلى صفوف الحزب العاملة والفاعلة، قيادات من أمثال الأخ الصديق طه على البشير، الذي افتقدناه في الوسائط الصحافية والإعلامية -التقليدية والحديثة- ردحاً من الزمن. فالعود أحمد.