لا أجد حرجا في إعتبار إعلان المباديء في جوبا بين الفريق عبد الفتاح البرهان والقائد عبد العزيز الحلو في مارس 2021 – وبما فيه من إعتبار العلمانية من مباديء التفاوض – من نقاط التحول الديموقراطي في السودان.
هو خطوة متميزة في بناء الثقة يجب البناء عليها والاستفادة منها وعدم التراجع منها البتة.
كون العلمانية جزء من مباديء التفاوض لا يعني فرضها برؤية طرف واحد، وهذه الدعوة ليست جديدة علي بل هي قناعة مستقرة، ولتقريب المثال أعيدكم للعام 2010 عندما كتبت مقالا بمقترح (عاصمة علمانية في جنوب السودان) فضا للخلاف بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية حينها.
فالمؤتمر الوطني مقتنع بأن جنوب السودان علماني وقد نال هذا الحق حتى قبل اتفاقية نيفاشا، لأن القانون الجنائي السوداني للعام 1991 اتجه إلى عدم تطبيق عقوبات الحدود الاسلامية في جنوب السودان.
ثم حسم الأمر في اتفاقية نيفاشا تماما وصار جنوب السودان علمانيا تحت حكومة علمانية وبموافقة الاسلاميين، وصار البرلمان مشتركا بين كل القوى السياسية السودانية، وكانت تلك اكثر الفترات استقرارا ورخاء اقتصاديا في السودان، أفضل بكثير قطعا من حكم قحت حتى بالنسبة للتعددية وتمثيل الجميع في برلمان قومي ووجود نظام علماني في ثلث الوطن.
كتبت كثيرا حينها ما الذي يمنع ان تكون عاصمة السودان في ملكال؟ بل وعضدت ذلك بأن مال – كال أصلا تعني بيتنا جميعا؟ أو أن تكون العاصمة مناصفة بين جودة الشمالية والجنوبية؟ مثل الوضع في اختلاف التشريعات بين دبي والشارقة؟ أو في أبيي؟ مع انهاء الخصام حولها؟
أقول لكم ماذا فعلت قبل كتابة العمود ذهبت إلى رئيس هيئة علماء السودان البروف محمد عثمان صالح وهو موجود واسألوه.
قال لي ما ذكرته له وجه شرعي، أكتب رأيك ولكن الاعتراض سياتي من الحركة الشعبية وليس من الطرف الآخر، وقد كان ما قال بالحرف، اعترض الذين يظنون انهم دعاة وحراس العلمانية، وبشدة.
للأمانة أشاد بالمقترح بعض الناشطين المستقلين واثنين منهم صاروا وزراء في حكومة قحت الأولى لن أذكر اسماؤهم، وادعوهم للتذكير بنقاشهم معي اذا رغبوا.
نص العمود سأعيد نشره على صفحتي في الفيسبوك.
المهم، الآن يعيد التاريخ نفسه، وأكرر ذات العرض بهذا التوضيح.
لا بأس من إعتبار إعلان البرهان – الحلو أساسا للتفاوض، والتأكيد على أن ما ورد فيه من علمانية نقطة الحوار الأولى.
ولا بأس عندي أن تكون هي من ضمن اجندة الحوار الوطني الذي يدور الآن، لأن الحلو لا يستطيع ان يفرض رؤيته على كل السودانيين.
العلمانية مبدأ تفاوض، نعم صحيح، نوافق ونؤيد، ولكن أي عاقل يقرأ هذا التطور في إطار نقطتين.
الأولى: العلمانية نسخ وأنواع وأشكال، تلتقي كلها في الفصل بين الدين والدولة، ولكنها تختلف في درجة ومستوى ونوع الفصل، هنالك تجارب في افريقيا في المغرب تحديدا باعتبار الدين والدفاع في اختصاص سلطة الملك. في آسيا، في الهند تجربة الأحزاب الولائية والجهوية، ويمكن أن يكون هنالك حزب اسلامي أو ديني أو ثقافي في مستوى فيدرالي محدد رغم ان الحكومة القومية علمانية، راجعوا مقالي “تجربة من الهند”.
ثانيا: القائد عبد العزيز الحلو لا يمثل كل السودان، ولا يمثل كل جنوب كردفان، بل لم يعد يمثل كل الحركة الشعبية في جنوب كردفان.
على ضوء هاتين النقطتين لا يملك الحلو أن يأتي بورقة حول تنفيذ مبدأ العلمانية ويقول للبرهان “تعال وقع هنا”.
حتى البرهان نفسه لا يملك منفردا أن يأتي بتصور عن علاقة الدين بالدولة ويطلب من الحلو أن يبصم عليه، ولكن اذا ادير حوار وطني شامل وتم التأكد من وجود مقترح فيه حد أدنى يرضي الغالبية من المتحاورين لم لا؟!
أنا شخصيا أرى أن الحلو ومنطقة جبال النوبة التي قاتلت المركز عمرا من الزمان لم تقاتل عبثا، هنالك مطالب، وهنالك خصوصية ثقافية وهنالك مناطق كاملة ذات وجود مسيحي مستقر، وهذا الأمر ينبني عليه خصوصية دستورية وقانونية بلا أدنى شك.
هل يعني هذا إعلان العلمانية في جنوب كردفان بدون اي نقاش؟!
الاجابة قطعا، لا!
ولكن بالتأكيد الاجابة المنطقية أن تكون هنالك فترة انتقالية محايدة تشمل الحلو وجميع فصائل الحركة الشعبية بجنوب كردفان وكل الأحزاب والحركات الموافقة على الاتفاقية النهائية.
انا من طرفي كسوداني راغب في السلام مقتنع تماما انه اذا كانت العلمانية في جنوب كردفان هي خلاصة استفتاء شعبي أو حتى توافق ولائي واضح، فأنا أول المهنئين.
وأجدد هنا مقترحي أن الخرطوم ليس مدينة مقدسة لتكون عاصمة أبدية للسودان.
يمكن أن تكون عاصمة السودان علمانية وفي منطقة أرتضى أهلها السودانيون العلمانية.
نقولها مجددا للغربيين نحن لم نهزم العلمانية إنما هزمتها مجموعة من حملة جنسياتكم الذين توهموا أن حيازة باسبورت أجنبي وأكل البريقر الدهني يوميا يمنحهم نقاط IQ اكثر (مع أن الاطباء يقولون غير ذلك) وأن الشعب السوداني مجرد تلامذة لهم.
لدي رأي سلبي رددته كثيرا عن علمانيي السودان، هم في غالبهم اسوأ من يدعو للعلمانية، هم هدية ومنحة لمناهضي العلمانية وراجعوا مقالاتي “الدوامة السياسية” و “إن لله جندا من لينين”، ومقالي بالإنجليزية:
The Last Chance for Making a “Sudanese Ataturk”! Lost or Not Yet?
مضت أيام طويلة في حكم قحت ولم تستطع أن تنجز شيئا في جانب العلمانية غير التصريحات والفرقعات والمحاولات الفاشلة في فرض مناهج تعليم رديئة ومتعرية لم يوافق البنك الدولي “العلماني” على تمويلها لأسباب تدني مستواها.
خلطت قحت بين العلمانية والاستبدال القسري وبالارهاب الفكري لتمكين الاسلاميين بتمكين حزبيين ومتعصبين، لم تأت بعض فصائل قحت من الأساس للعلمانية إنما أتت لتصفية حسابات وضغائن ومرارات سياسية منذ الستينات، جاءت لفرض الاشتراكية ومناهضة التحرير الاقتصادي، واسئلوهم.
لذلك فشلت وبدلا من التسويق للعلمانية عززت قناعة الكثيرين ان العلمانية فكرة فاشلة وغير وطنية.
دعونا نفتح صفحة جديدة، وندعو بلا مواربة ولا خوف ولا تردد لإحياء التفاوض بين رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقائد الجيش الشعبي لتحرير السودان عبد العزيز الحلو.
وأتمنى أن يكون التفاوض في عروس الجبال كادوقلي وليس في جوبا مع كامل تقديرنا وحبنا لجوبا، ولكن كادوقلي أولى بشأنها.
عزيزنا فولكر فيما تبقى من أيامك لو انشغلت بهذا الملف بدلا من الدفاع عن حفنة من الفاشلين أفضل لك.
والفرصة مجددا أمام أصدقاء السودان كلهم ورعاة اليونتامس تحديدا وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية والسفير جون جودفري أن يكونوا مسهلين وميسرين للتفاوض. لن يقبل الشعب السوداني بعد تجربة قحت أي أوصياء لترجيح طرف على طرف ولا بد من حوار موسع وشامل.
مرحبا بهم لكن في إطار تفاوض سوداني سوداني خالص.