للقهوة طقوس ومكانة خاصة لدى أهل الشرق حيث لاتكتمل واجبات الضيافة إلاَّ بها ، ولايقطعون أمراً إلاَّ على أصوات إرتشافهم لها ، وتتحول دورِهم إلى منتدياتٍ للثقافة والسياسة حينما يضعون ثيابهم من الظهيرة ويتَحلّقون أمام فناجين القهوة والخمر الحلال .. وتزداد متعتى وأنا بينهم بسماع كركرة الشيشة ونفث دخانها بتلذذ .. إلاَّ أن أحدهم باغتنى ونحن فى غمرة التحليل والتنظير بسؤال أفسد علىَّ متعتى مستفسراً عن الغياب المُريب والصمت المهيب للشرطة السودانية العظيمة التى عُرِفَ عنها أنها صاحبة مواقف مجيدة سجلها التأريخ قديماً وحديثاً .. ومتى ستتحلل من إحرامها وتلبس المخيط والمحيط و ( تكرب قاشها ) وهل غيابها قسريَّاً أم طوعياً ..!!؟ إلاَّ أننى لم أشأ التسرّع فى التعليق فالتثبت والموضوعية والإنصاف وتقدير الحال يظلاَّن أسلم للحكم والضمير .. وفهم مُحدِّثى بفطرته البدوية سكوتى عن الإجابة وإعتبرها إجابة ..!! وتبرّع أحد الحاضرين ممن يُجيدون الثرثرة بوعىٍ ودون وعى بأن قصَّ على الحاضرين حكاية من حكايات كليلة ودمنة مفادها أن حيوانات الغابة قد مرَّت بسنوات ( قحط ) وجدب لاتُبقى ولاتذر ، فجمعها الأسد فى ( حوار وطنى شامل ) لتدارس الوضع وإبداء الرأى فيما يمكن فعله ، وتم طرح آراء مختلفة من العديد من (رموز) الغابة ، وعندما طلبوا من أحد أدعياء الوطنية ( الغابيَّة ) تقديم رأيه وكان وقتها منهكاً من شدة الجوع فقال لهم : ( لوكان عندى رأىٌ لأكلته )..!!
هذا الصراع المحموم على السلطة الذِّى غابَتْ وغُيِّبَتْ فيه مصالح أهل السودان وتبددَت أحلامهم وذهبت مع الرِيح ودوِّى المدافع ، أدخل المواطنين فى سجنٍ كبير إسمه الخوف من المستقبل المجهول وهم يرون أن الوضع يزداد قتامة فى ظل هذا الإقتتال العار وتداعياته الداخلية والإقليمية والدولية نزوحاً إلى المدن والقرى والأرياف وإجلاءً للمستأمنين .. هذا الإقتتال الذى إختزل الدولة فى الصراع على السلطة على غير هُدىً ، فقد تاهت العقول وهان الفكر ولبس الغث جلد السمين .. فلئن كانت الدولة السودانية تعيش أزمة سياسية منذ أبريل ٢٠١٩م إلاَّ أنها الآن تعيش أزمة أمنية وجودية غير مسبوقة ، تتقاذفها أمواج المطامع وتعصف بها حماقات القادة العسكريين الذين أفسدتهم السياسة وأفسدوها ، يجازفون بوطنٍ هش كُل تركته من الموروث السياسى سوءاتٍ وعوراتٍ من أثر الدائرة اللعينة التى فشلت فى خلق وطنٍ مستقر ولم تستطع بناء جدارٍ للديموقراطية ، وتراكم الإحتقان السياسى على مدى العقود الست ، وإزدادت الأزمات الإقتصادية وحدثت إختلالات بنيوية فى منظومة القيم المجتمعية .. فسقط هؤلاء القادة فى إختبارات المواقف وسقطوا من عين الوطن بعد أن ظنوا أن السودان ( محفظة ) يضعونها فى جيوبهم الخلفية ، وأن أهله ليس إلاَّ قطيعاً من الأغنام تسير فى الإتجاه الذى يريدون ، يستخدمون عصا الوصاية وعصا الوطنية يهشون بها عليهم سوقاً إلى المرعى الخصيب فى ظنهم ، وإلى المذبح إن لزم الأمر تأديباً وتخويفاً وإسكاتاً .. ولقد تكاثفت الغيوم السوداء المتناثرة على سماء السودان وإزداد الناس بؤساً على بؤسهم ومعاناةً إلى ما هم عليه ، وإزدادت أعداد الأرامل واليتَامى والثُكالى وتضاعفت الأحزان ، وإنتهت صلاحية قادة الصراع منذ الطلقة الأولى لهذا الإقتتال العار الذى جعل بين ( الفريقين ) بل بين ( الفرقاء ) أوائل حجاباً وحِجراً محجوراً فيا لفداحة ما فات ويا لفداحة ما ضاع ..!! فحىَّ على سلامة هذا الوطن العزيز من الضياع فهو قيمة عظيمة يكتمل بتكامل الأدوار وليس مالاً يُكتَسبْ ولا منصباً يُعتلى ولا بضاعة يُساوم عليها .. فها هى أممٌ وشعوبٌ كثيرة كانت تقتدى بنا وتتمنى أن تكون مثلنا وتخطُب وُدّنا إلاّ أنها لحقت بنا وتجاوزتنا بل وصارت تنافس الكبار على المقدمة لأنها صارت على الطريق الصحيح وأخذت بأسباب النهضة والنهوض ، وآمنت بوطنٍ هو فضاؤها وأديمها ، ونحن عاجزون حتى أن نكون مثل الغراب فنوارى سوءاتنا التى تنهشها الكلاب فى طرقات عاصمتنا .. فيا لعارنا ويا ويلنا من لعنة التأريخ ..
نسأل الله أن يُبرم لنا أمراً رشداً وأن يحفظ لنا سوداننا وأن يُعيد علينا نعمة الأمن والأمان التى أضعناها بجحودنا .. ولنعيد قراءة هوامش نزار قبانى على دفتر النكسة لعل صغارنا يهزمون الهزيمة .