بين غبار المعركة الشريفة التي تخوضها القوات المسلحة-مسنودة بدعم شعبي واسع- ضد المليشيا المتمردة، تتراءى مواقف غريبة، لا يملك أي مواطن أبي النفس سليم الوجدان والشعور إلا أن يطاطيء رأسه خجلا منها.
في كل دول العالم(دون استثناء) تكون مهمة الجيش
الأساسية، والتي بموجبها أنشي وجرى تسليحه وتدريبه وصرف عليه من الميزانية العامة هي الدفاع، وكلمة الدفاع مقصودة لذاتها لأن العالم تواضع – بفعل التجارب الانسانية المكلفة والحروب المهلكة- على تحريم الاعتداء وتجريمه، ولاتوجد دولة مهما بلغ بها الشأو تسمى جيشها أو قواتها العامة:قوات الهجوم، أو تسمى الوزارة المختصة وزارة الهجوم.
لكن عمليا يتم التحايل على الأمر بما يعرف بالحرب الاستباقية أو الوقائية، ولا يمارس هذا النوع من الحروب إلا بواسطة الدول الكبرى ذات القدرات العسكرية النوعية فهي تتوسع في تحديد مفهوم أمنها القومي، وبالتالي تتوسع في عملياتها العسكرية خارج الحدود الجغرافية،
(2)
ورغم مكاره الحروب وفظائعها وأهوالها، فإن الحرب الدفاعية-خلافا لما يتوهم البعض- أحفظ للنفس والمال، وخير حارس للأعراض والممتلكات، وأوفر صيانة للحريات والمعتقدات، وأظن أن هذا المعنى متضمن في القول الكريم(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ)، ومن كان يشك في ذلك فلينظر إلى ما تقوم به المليشيا الآن في دارفور والخرطوم من قتل للنفوس الزكية واعتداء على الحرمات وسلب للممتلكات، تفعل ذلك بالناس وهي في المعارضة، فكيف لو دانت لها السلطة؟ وكيف لو خلا لها وجه السودان وتمكنت من الرقاب، ولم يتم ردعها ودحرها؟؟.
ومن هنا اكتسبت حرب الدفاع مشروعيتها القانونية والأخلاقية والإنسانية والعرفية، بل البقائية، فحتى عالم الحيوان جبل على الدفاع عن نفسه ونوعه بشتى السبل والوسائل، ومن هنا أيضا استحق الذين يخوضون غمار حروب الدفع المشروعة ويبذلون ارواحهم فيها، أوسمة التكريم وانواط الجدارة والذكر الحسن، والمرتبة السنية التي تضعهم أعلى وأكرم من سائر الناس.
(3)
ما علاقة هذا الأمر بالسودان- وهو للمفارقة من الدول التي تعرضت للضربات الاستباقية – ؟؟. العلاقة هو أن هناك شريحة من السودانيين يريدون أن يصبح جيشهم المدافع عنهم (جيش لا وظيفي)، والجيش اللا وظيفي هو الجيش الذي تتلخص مهمته كلها في الطوابير والعروض العسكرية، يتدرب فيه الجنود والضباط ويتخرجون، ثم يقومون بتدريب الدفعات الجديدة، وهكذا بصورة تماثل مايقوم به مدربو التنمية البشرية.
قلت لكم مرارا
أن الطوابير التي تصطف في الفطر والجلاء
فتهتف النساء
في النوافذ انبهارا
لاتصنع انتصارا
(4)
هذه الشريحة تجادل الجيش في مهمته الأساسية، وتطالب بكف يده عن الدفاع-مثلا- عن أقدس الاقداس التي ترمز للسيادة الوطنية(القصر الجمهوري) أو التي ترمز للجيش نفسه(القيادة العامة)، أو التي ترمز للسودان كله(العاصمة الخرطوم).
المأساة أن هذه الشريحة تضم-إلى جانب قوى الحرية والتغيير- أعضاء في مجلس(السيادة)، الذين بدلا من أن ترتفع همتهم ليدافعوا عن سيادة الدولة السودانية التي يمثلونها، وترتقي قامتهم ليبلغوا مرتبة المواطن الصالح الذي ينحاز بفطرته إلى جيشه، فعلوا العكس، ذهبوا للخارج يطلبون منه السيادة على سيادتهم.
ووحده المسؤول المالي الأول في الدولة السودانية يعرف المأزق الذي يعيشه هو، والتنازع الذي يسيطر عليه. إذ كيف يستطيع الجمع بين واجبه العملي الذي يحتم عليه قانونا أن يكون الرافد الأول للجيش السوداني بالمال والعتاد بحكم ولايته على المال العام، وبين موقف الحركة التي يرأسها والتي تلزمه بالامتناع عن تأييد هذا الجيش حتى ولو بتغريدة؟؟.
وكيف يقف حاكم إقليم سوداني محايدا في حرب ضد حكومة يمثلها، وبعض هذه الحرب المفروضة تقع داخل نطاق حكمه الجغرافي؟
يبدو أن الدولة السودانية التي نعيش على ظهرها اليوم2023 هي دولة افتراضية، لا تخضع للمعايير التي يعرف بها الناس الدولة، ولا تتسق مع ما يدرسه المهتمون بالعلوم السياسية عن واجب الدفاع عن سيادتها، أو أنها دولة يمكن العيش فيها ولكن لا تستحق الدفاع عنها.