✍️ المحبوب عبدالسلام
اخيراً نطق أحد رموز النخبة الاسلامية حديثاً يستحق التأمل والوقوف، الدكتور غازى صلاح الدين فى لقائه مع الطاهر حسن التوم فى ١٨ يونيو الجارى، ما زال هنالك نجم يلمع وثمة خيط فضى تحت الغمامة، لدهشة المشاهد استدعى الدكتور غازى هيجل وكارل ماركس ونسب اليهما بحق أصول الحدة فى الصراع السياسي المحتدم اللحظة فى السودان، ما فارق المنطق فى شئ عندما اشار الى الديالكتيك الذى ابدعه هيجل وحمله كارل ماركس لاقصى مدىً فى الاقتصاد وعزى اليه المواقف الحدية فى السياسة السودانية التى تلامس العدم فى مواقف اليسار السودانى. حَمّل الدكتور غازى تلك الحدة والحدية انحسار الاحترام فى السياسة كالذى يحمل النخب السياسية الى الاساءة الى قادة القوات المسلحة ورأى فى ذلك أمراً عجباً، مؤكداً أن القوات المسلحة مباح فى حقها النقد شأن كل مؤسسات الدولة وأن الاصلاح واجب لها ولكن تجريدها من الاحترام يهز التماسك فى بلد يكابد الهشاشة خاصة ممن ترجو منهم الدفاع عن حدودها ، ورأى أن أكبر الفشل أن توحى سياستك ومواقفك بإستحالة التعايش مع الآخر المختلف وأن تبلغ التناقضات حداً يبطل الديمقراطية، رغم اعجابه بالفكر الذى غير العالم والاشعاع المهول الذى كان للماركسية عندما تبنتها نظم وآمنت بها أحزاب وصار لها حواريين ودراويش، ومسّ كبد الحقيقية عندما أضاء العلاقة بين حاجة المجتمع للفكرة وإبداع المفكر الذى يأتى فى موعده بالضبط، خاصةً وهو يقر ويسلم بأن المشهد السودانى لاسيما لدى الملايين الشابة الداخلة لتوها الى التاريخ قد غيرت مجتمعات السودان الى الأبد وهى تنتظر الكلمة الملهمة الهادية.
لوهلة بدى حديث المفكر السياسى أقرب الى خطاب المبشرين والرسل عندما يصدعون بنذارة يوم الدينونة واقتراب اهوال القيامة، الغريب انه كان يتحدث عن الحرب الروسية الاوكرانية الراهنة، ورغم تأكيده أن موعد القيامة ليس من اختصاصه فقد حدثنا أن هاجس مس الزر النووى يراوده ايامه هذه، ولكن الذى يستيقنه هو أن العالم سيتبدل أو تبدل بالفعل، ويبصر وراء ذلك فرصة رغم الشؤم الذى تنذر به عودة الايدلوجيا على نحوٍ لم يراه طوال مسيرته السياسية ولكن ربما أشار من طرفِ بعيد الى أن عودة التوازن وانحسار القطب الواحد ربما يعيد شيئاً للشعوب المحرومة فماذا يخسر السجناء غير سجونهم.
ربما طال العهد بين الدكتور غازى وبين الساحة الداخلية السودانية بعد الثورة، فرأى فى ورقة الحرية والتغيير حول ترتيبات إنهاء الانقلاب وثيقة مخدومة بعزم من قوى محلية واقليمية ودولية، رغم أنها تكاد تشمل كل بداهات ورطيقيا ما بعد ٢٥ اكتوبر، فإذ إضطرت اكراهات السياسة قوى المجلسi المركزى أن تكسر تابوهات الشارع وتجلس الى المكون العسكرى وأن تبحث لها عن اطروحة متكاملة تقنع بها الرأى العام السياسي والثوار. أثار الدكتور غازى فى نقده لوثيقة انهاء الانقلاب مسألة العمالة والوطنية واعتبرها معياراً يقاس به تبدل القيم السياسية، فأضحت العمالة فخر ومباهاة بدلاً أن تكون تهمة يزور منها الوطنى الخالص، وربما تكون هذه أكثر النقاط سياسوية فى المقابلة وربما الإشارة الوحيدة العائدة الى هواجس الاسلام السياسى، فحيث لا تزال الخطوط الفكرية والسياسية غائمة بين إدارة السياسة الخارجية بعزة واستقلال كما ينص دستور الانقاذ وبين تبذل الانقاذ فى الاستكانة للاجنبي وتهافتها على ارضائه، وذلك باب مهم ، ربما يُنتظر من الدكتور غازى أن يساهم فيه مساهمة جادة لما توفر له من ادارة ملفات مهمة وادارة حوار ومفاوضات بالغة الخطر وهو يكتب مذكراته عن سنواته الطويلة فى الحكم.
كانت مسألة الأطروحة الاسلامية البديلة أو الفكر الاسلامية الذى يجتهد ليوائم بين الاسلام والحداثة فى ظل تبدل احوال السودان الهائل الذى اعترف به الدكتور غازى فى وضوح وضمن عالم يتغير اليوم وغداً هو اضعف حلقات المقابلة رغم أن اللقاء كان بالاساس سياسي يجتهد مقدم البرنامج ليحصره فى اطار اسئلته ولا يجد الدكتور غازى فى اجابته سبيلاً الا طرح الأفكار وقراءة التاريخ.
قدم الدكتور غازى نقداً مهذباً ولكن عميقاً للمقابلة التى اجراها ذات المحاور مع السيد على كرتى وكان ما بين السطور يقول فى وضوح أنه لم يجد جديداً في المقابلة يوازى الركام الهائل الذى خلفه ثلاثين عاماً من الحكم ووجه نقده بوضوح ايضاً لفكرة التنظيم فى جوهرها وأن الأوفق الأول هو مخاطبة الآخر وحمل الطمأنينة اليه.
فى أول اللقاء وآخره نهج الدكتور طريق تشاؤم العقل تفاؤل الارادة، بوصفه مفكراً وسياسياً كان لابد له من إعلاء رآيات الأمل ، يقول ربما اتسع الفتق على الراتق ولكن أيّما رتق فى أيّما جزء أو جزئية يرتق نسيجنا المجتمعى مفيد، كل فكرة مطلوبة وكل بذرة تبذر وكل فسيلةٍ تزرع، سبق للدكتور غازى أن كتب قبل سنوات مستشهداً بالأثر الاوربى لا تبخسوا الرحمات الصغيرة، ذات الكلمات التى سمعتها منذ حين من سياسيين فى اليمين وفى اليسار أننا بصدد بناء دولة ونحتاج الى سهم كل فرد أو جماعة فى المهمة التاريخية، ووقف الدكتور غازى مستعجباً من وضوح الأولويات وارتباك المشهد ومن المسارعة الى العنف والبلاد أحوج ما تكون الى السلام لأكمال واجبات الانتقال.
١٩ يونيو ٢٠٢٢