✍️ عبداللطيف كبير
التأريخ يحكي إن أمد الجندية في السودان قديم إمتدت جذوره إلي الممالك القديمة في كوش ونبتة ومروي والبجراوية والسلطنة الزرقاء وأبتدره الإمام المهدي وهو يناهض المستعمر وبرزت ملامحه في شيكان وكرري وأم دبيكرات .. لتتشكل عبره شخصية الجندي السوداني ذلك الرائد الذي لا يكذب أهله .. وحتي إشراف المستعمر علي قوة دفاع السودان لم يمنعها أن تتصدر الحركة الوطنية وتقود رحلة البحث عن الإستقلال ولذلك التأريخ شواهد لايمكن حصرها او الحديث عنها في سطور .. من بينها تمرد الضباط والجنود السودانيين في الأورطة الرابعة عشر الشهير في تلودي في العام 1900م كأول شرارة للحركة الوطنية الحديثة والتي أيقظت المستعمر وجعلته يضفي كثيرا من التعديلات والقوانيين التي تقيد القوة العسكرية في السودان إلا إن تلك الجذوة الوطنية ظل تتقد وتنمو في صفوف تلك القوة خاصة بعد إفتتاح المدرسة الحربية في العام 1905م ( براءة الحاكم العام) ليمثل خريجوها الطليعة الوطنية المستنيرة التي جذبت إليها المدنيين للإنخراط في صفوف الحركة الوطنية ومناهضة الإستعمار بتكوينهم للجمعيات السرية و التي من بينها علي سبيل المثال جمعية الاتحاد السوداني والتي كونها الضباط الوطنيين أمثال ( خلف الله خالد .. عبدالله خليل ..عبدالله النجومي.. محمدفرح علام ..إبراهيم عبود ..عبدالحميد مرسال ..صالح حسن أبوكدوك ) وكان معهم من المدنيين (خالد سليمان كشة .. محمد صالح الشنقيطي ..عبدالرحمن نقدالله وعبيد حاج الأمين) .. غير أن جمعية اللواء الأبيض والتي كونها الملازم علي عبداللطيف في العام 1924م مثلت علامة فارقة في مسيرة النضال الوطني والتي ضمت عدد كبير من الضباط خريجي المدرسة الحربية أمثال ( حسن الزين .. زين العابدين عبدالتام .. محمود إبوالنجا .. عمرالدغور.. عبدالقادر مرسال) وغيرهم وكانت دماء الشهداء علي عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ وثابت عبدالرحيم ورفاقهم من الضباط والجنود هي التي عبدت طريق الاستقلال وأشعلت قناديل النضال وأرست لهذه المؤسسة جذورا عميقة في الإرتباط بشعبها الباحث عن الحرية والمتطلع للإستقلال .. دماء بعضها من بعض ونيل يجري في العروق بألق الشجاعة والمروءة الدافئة وسواعد تشد زندها علي الواسوق بإحساس الوطنية والتضحية والفداء عبر الأزمان ..
وما بين ذلك الهزيع من عشرينيات القرن الماضي والعام 1954 مسيرة من النضال والإستبسال خاضتها قوة دفاع السودان وهي ترنو ببصرها إلي قبس الحرية والإنعتاق في الأفق البعيد من وراء عهود أوفت بها مشاركة في الحرب العالمية الثانية بغية تقرير ذلك المصير (إستقلال السودان) وتوجت ذلك في الرابع عشر من أغسطس 1954م بإستلام الفريق أحمد محمد الجعلي لقيادتها من الجنرال الإنجليزي إسكونز باشا كأول ضابط سوداني يتقلد هذا المنصب الرفيع لتبدأ مرحلة جديدة ومهمة في تأريخ السودان عرفت إصطلاحا بالسودنة وعبرها كتبت قوة دفاع السودان الأحرف الأولي للإستقلال ورسمت ملامح سيادة الدولة الوطنية بسواعد بنيها الأفذاذ وتكونت لجنة إجراءات السودنة من كبار ضباط قوة دفاع السودان وهم
الأميرلاي إبراهيم عبود وكان رئيسا لتلك اللجنة وعضوية القائمقام عبداللطيف بك الضو والبكباشي عبدالله الصديق دار صليح والبكباشي أحمد رضا فريد والبكباشي حسن بشير نصر والبكباشي المقبول الإمين الحاج ومن الوظائف التي تمت سودنتها بجانب القائد العام الفريق أحمد محمد كانت سودنة القيادات ..بضباط سوانيين تسلموا القيادة من الإنجليز ففي الشرقية تولي القيادة الاميرلاي عبداللطيف الضو وينوب عنه كقائدثاني القائمقام محي الدين إحمد عبدالله و في توريت معقل القيادة الجنوبية تولي القيادة الأميرلاي إسماعيل سالم وينوب عنه القائمقام محمدنصر عثمان وتولي القيادة الغربية الأميرلاي محمد عثمان محمد وينوب عنه القائمقام أحمد رضا فريد .. وتولي قيادة الهجانةالضابط السوداني مأمون المرضي ينوب عن أحمد عبدالله حامد وفي مدرسة المشاة بأمدرمان تولي القيادة الطاهر إبراهيم العبد وينوب عنه أحمد عبد الوهاب … وتلك نماذج فقط للوظائف التي تمت سودنتها وليس للحصر .. ومما يحفظه التأريخ البيان الذي أدلي به وزير الخارجية البريطاني إمام مجلس العموم الذي إحتدمت فيه النقاشات بشأن إجراءت السودانة حيث أشاد الوزير البريطاني بالقائد العام السوداني الجديد وذكر إن سجل خدمته نظيف وأضاف ( إننا نذكر بالفخر والإعزاز أن قوة دفاع السودان قد حاربت ببسالة إلي جانب الحلفاء في الحبشة والصحراء الغربية وإرتيريا ولشعب السودان كل الحق في أن يفخر بسجل جنوده في قوة دفاع السودان) .. وتبعا لإجراءات السودنة تم تحويل إسم قوة دفاع السودان إلي الجيش السوداني وتغيير أسماء الوحدات التي كانت تعطي إنطباعا عنصريا أراده المستعمر بحذف تلك العبارات منها:
فرقة العرب الشرقية لتصبح القيادة الشرقية وفرقة العرب الغربية لتصبح القيادة الغربية إلي جانب القيادة الجنوبية والهجانة والشمالية (سواري شندي التي تحتضن الإحتفال هذا العام)..
لقد مثلت تلك الإجراءات التمهيد الحقيقي لدولة السودان الحديثة ليرتفع العلم عاليا خفاقا بسواعد السودانيين فسلام علي أولئك النفر من الرعيل الأول الذين أرسوا قواعد هذا الصرح العظيم وكتبوا تأريخ هذه الأمة بدمائهم وصدق إنتمائهم ويبقي الإحتفال بهذه الذكري في جوهره الحقيقي إعادة قراءة لذلك السفر الخالد بمواقفه وعبره ودورسه الوطنية لعلها تسعفنا في الإجابة علي أسئلة الحاضر ورؤي المستقبل ..
وتجدر الاشارة من بين ثنايا هذا المقال إلي أنو أول من قام بإحياء هذه الرمزية والإحتفال بذكري سودنة القوات المسلحة وجعلها عيدا للجيش هو الراحل المقيم طيب الله ثراه الفريق أول ركن عبدالماجد حامد خليل النائب الأول لرئيس الجمهورية وزير الدفاع والقائد العام وقتها وذلك في مطلع الثمانينيات علي عهد الرئيس والقائد الأعلى الراحل المغفور له المشير جعفر محمد نميري.
وكما أشرنا في مطلع المقال الحديث عن هذا التأريخ وسرده بشخوصه والمواقف والرجال لا تختزله هذه العجالة والسطور وتلك فقط إشارات نسوقها ونحن بين يدي إحتفالات القوات المسلحة بعيدها الثامن بعد الستين وهذه دعوة نبذلها علي لسان الإخوة في المتحف الحربي لمن أراد الإطلاع والتعرف علي المزيد من الوثائق والمخطوطات والمقتنيات التي تعبر عن ذلك التأريخ المجيد والمتحف موقعه الحالي قبالة كبري النيل الأزرق من الناحية الشمالية الغربية .. وتبقي تلك الرسالة للأجيال اللاحقة أن يابني السودان هذا رمزكم .. يابني السودان هذا جيشكم يحمل العبء ويحمي أرضكم ..
عبداللطيف كبير
السبت 13أغسطس 2022م