بقلم :الدكتور الدرديري محمد احمد
بقدر ما تحرص الدولة في أمريكا على النأي بنفسها عن تطفيف موازين العدالة الداخلية، فانها لا تأبه بالعدالة الدولية.
بل لاتستنكف عن تسييسها ولي عنقها حسب مقتضيات المصالح الامريكية. وليس الاعلان الذي أصدرته الخارجية الامريكية بالأمس لإدراج مولانا أحمد هرون ضمن برنامجها لمكافآت المتهمين بإرتكاب جرائم الحرب الا المثال الأخير لما ذكرنا. ذلك ان مولانا أحمد هرون ليس فارا من العدالة حتى تعلن مكافأة لالقاء القبض عليه.
وليس مطلوبا مثوله في الوقت الراهن امام المحكمة الجنائية الدولية، والتي هي على كل حال آخر محكمة تفكر الولايات المتحدة في التعاون معها سواء في ظل الإدارات الجمهورية او الديمقراطية. ولا تتوفر بينة كافية لتقديم هرون للمحاكمة لدى تلك المحكمة باعتراف مدعيها العام. غير ان هناك هدفا سياسيا ترجو أمريكا تحقيقه من إعلانها على طريقة أفلام الويسترن عن جائزة لتسليم أحمد هرون.
في الاسبوع الثاني من هذه الحرب، وكما هو معروف، وصل القتال منطقة سجن كوبر وتأثر السجن وتوقفت فيه الخدمات. حينها أعلن مولانا احمد هرون في بيان جهير صدر في ٢٥ ابريل ٢٠٢٣ أنه هو وقادة نظام الإنقاذ المحبوسين بسجن كوبر قد توصلوا لاتفاق مع السلطات بالخروج من السجن بسبب انهيار الأمن وانقطاع الخدمات. وقد تلفزت ذلك البيان قناة طيبة. ونشرته صحيفة الجريدة ضمن اخريات. كما تم تسجيل فيديو يوضح كيف تأثر السجن بالاشتباكات وآخر يوثق للتفاهم الذي تم مع السلطات ولخروج المحبوسين المعلن. وجرى تداول هذه الفيديوهات في الوسائط على نحو واسع. وأكد البيان، أن جميع المسئولين السابقين على استعداد للعودة الى السجن ومواجهة الاتهامات الموجهة لهم فور استتباب الامن. وهكذا، فان مولانا أحمد هرون ليس في حالة فرار من العدالة. بل خرج من السجن بإذن السلطات، ولديه مكان إقامة معروف داخل السودان، ويتحرك بحرية ويشهد المناسبات المختلفة، وهناك أنشطة له رصدت إعلاميا.
وبالرغم من ان سيادة الدولة في السودان قد انحدرت مؤخرا لدرك سحيق، الا ان اعلان جائزة بواسطة دولة اجنبية، لتسليم مواطن سوداني موجود على ارض بلاده، على عنوان معروف، لمحكمة دولية، ليست الدولة المعلنة عن الجائزة طرفا فيها او ملزمة بالتعاون معها، سيدخل التاريخ باعتباره أسوأ مظاهر امتهان السيادة التي مر بها السودان. هذا من ناحية الوقائع.
اما من ناحية القانون، فانه بعد التغيير الذي جرى في أبريل ٢٠١٩ قامت فاتو بنسودا المدعية العامة السابقة لمحكمة الجنايات الدولية بتفعيل مبدأ “التكاملية” complementarity فيما يتعلق بقضايا السودان. وحين تُفَعِّل المحكمة الجنائية الدولية هذا المبدأ المنصوص عليه في المادة ١٧(١)(أ) من نظام روما الأساسي فانها توقف النظر في الدعوى بسبب ان دولة ذات اختصاص قد تولت التحقيق او المقاضاة فيها.
في ٢٠ أكتوبر ٢٠٢٠ زارت بنسودا الخرطوم، في سابقة عدها المتحمسون لهذه المحكمة فتحا، وألقت خطابا في مؤتمر صحفي قالت فيه ان المحكمة الجنائية الدولية هي “محكمة ملاذ أخير”. وفسرت ذلك بالقول: “وهذا يعني أن أنظمة العدالة الوطنية تتحمل المسؤولية الأساسية عن التحقيق مع الأفراد الذين يرتكبون مثل هذه الجرائم ومحاكمتهم. وإذا لم يحدث هذا، فإن المحكمة الجنائية الدولية موجودة كآلية ملاذ أخير لمنع الفشل”. بل مضت أكثر من ذلك وأعلنت تصريحا انها تحترم مبدأ “التكاملية” بشأن قضية أحمد هرون وقضايا أخرى سمت المتهمين فيها.
حيث قالت: “ونحن نتطلع إلى مواصلة حوارنا مع السلطات السودانية لضمان إحراز تقدم في هذه القضايا مع الاحترام الكامل لأدوارنا وتفويضاتنا ولمبدأ التكاملية”. وهكذا لم تطلب بنسودا، في زيارتها “التاريخية” تلك، من السلطات السودانية تسليمها احمد هرون او غيره.
وحيث ان هرون كان في يد هذه السلطات في سجن كوبر، فانه كان بالإمكان ترحيله بكل سلاسة الى لاهاي لو طلبت المدعية العامة ذلك. ومن عجب فان من طلب الترحيل الى لاهاي هو مولانا أحمد هرون نفسه. ففي مايو ٢٠٢١ فأجأ هارون الحكومة السودانية بطلب نقله للاهاي ليحاكم امام محكمة الجنايات الدولية. وبرر طلبه بأنه لم يعد يثق في البنية القانونية للبلاد او نزاهة العدالة التي تم تسييسها تحت ظل الفترة الانتقالية وحكومتها الهشة. وقال هرون انه بالرغم من تسييس محكمة الجنايات الدولية الا انه ربما يجد من بين قضاتها “نجاشي لا يظلم عنده أحد”.
بعيد ذلك الإعلان بقليل زارت بنسودا السودان للمرة الثانية في يونيو ٢٠٢١. وقالت في زيارتها تلك انها “بحثت” مع المسئولين امكانية “تسليم أحمد هارون”.
وبررت تقديم هذا الطلب، رغم دخول مبدأ “التكاملية” حيز النفاذ، بأن أحمد هرون “مرتبط بقضية علي كوشيب”، وانها ترى “ان يحاكم الرجلان في محكمة واحدة”. غير ان السلطات السودانية لم تستجب لطلب بنسودا وتمسكت بمبدأ “التكاملية”. بعد مغادرتها الخرطوم، سافرت بنسودا الى نيويورك حيث خاطبت مجلس الامن وناشدته قائلة: “أناشد هذا المجلس إقناع السودان بالوفاء الفوري برغبة هارون وتسهيل نقله إلى المحكمة الجنائية دون تأخير”. الا ان مجلس الامن لم يستجب أيضا لطلبها. بل أشار عدد من المندوبين في مداخلاتهم لمبدأ “التكاملية”، ومنهم، ويا لسخرية الأقدار، المندوبة الدائمة لدولة الامارات العربية المتحدة التي كانت تشغل مقعدا غير دائم بمجلس الامن.
هكذا صار واضحا ان مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية في العام ٢٠٠٧ بحق مولانا أحمد هرون قد عطلت. وبحسب القواعد الإجرائية المعمول بها في تلك المحكمة، تظل تلك المذكرة معطلة ما لم يتقرر اعتبار السودان دولة غير راغبة او غير قادرة على مباشرة إجراءات التحقيق او المقاضاة. والجهة التي تقرر ذلك هي الدائرة التمهيدية في محكمة الجنايات الدولية بناء على طلب يتقدم لها به المدعي العام للمحكمة. وفي مثل أحوال السودان فانه يجوز لتلك الدائرة ان تتخذ قرارها وفقا للمادة ١٧(٣) التي تعطيها الحق في ان تقرر ما اذا كان هناك انهيار كلي او جزئي للنظام القضائي الوطني اوانه لم يعد متوافرا. غير انه لا يتخذ مثل ذلك القرار الا بعد اخطار السودان وإتاحة الفرصة له لتقديم دفوعه التي تبرر استمرار انعقاد الاختصاص لقضائه الوطني. وهكذا يتضح من ناحية القانون ان مولانا احمد هرون لم يعد موقوفا في الوقت الراهن من قبل المحكمة الجنائية الدولية او مطلوبا امامها.
في هذا الأثناء انتهزت محكمة الجنايات الدولية فرصة تفعيل مبدأ “التكاملية” لتحقيق مآرب أخرى. ففي فبراير ٢٠٢١ أرسلت تلك المحكمة بعثة للخرطوم تضم اثني عشر محققا برئاسة نائب المدعي العام جيمس كيركباتريك لجمع المستندات والبينات والافادات التي تحتاجها القضية في مرحلة المحاكمة. وقد طلبت تلك البعثة من وزير العدل نصر الدين عبدالباري توقيع مذكرة للتفاهم تتيح لها التحرك بحرية لاداء مهام التحقيق الجنائي في الإقليم السوداني وفتح مكتب دائم بالسودان.
بعد ان انقضت ولاية بنسودا وجاء كريم خان لمنصب المدعي العام تكشفت حقيقة الأسباب التي دفعت ببنسودا لابتعاث بعثة التحقيق الكبيرة تلك بقيادة نائبها ومطالبتها بتوقيع المذكرة وافتتاح مكتب في السودان. اذ تبين ان المحكمة الجنائية في مأزق بسبب أنه لا توجد لديها بينة تكفي لتقديم قضية احمد هرون للمحكمة. وكذلك الحال بالنسبة لقضيتي الرئيس البشير والفريق عبدالرحيم حسين.
ففي تقريره الذي قدمه لمجلس الأمن في ١٧ يناير ٢٠٢٢، قال كريم خان “ان البينة، وبشكل خاص تلك التي تتعلق بقضيتي الرئيس السابق السيد البشير وكذلك السيد (عبدالرحيم) حسين، ينبغي ان تقوّى”. طلبت منه الدائرة التمهيدية للمحكمة توضيح ما يعنيه بهذا القول الخطير، كون ان الدائرة قد سبق ان وجهت التهمة ضد المذكورين مما يعني انها كانت قد قررت مسبقا انها اقتنعت “بوجود اسباب معقولة للاعتقاد بأن الشخص قد ارتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة”. فافادها كريم خان في رد منشور على موقع المحكمة انه فور توليه المنصب وجه باعادة تقييم البينة، التي جمعتها بنسودا، في كافة القضايا التي يتولاها مكتب الادعاء وعلى رأسها حالة دارفور “وذلك للتقرير حول ما اذا كانت لاتزال هناك اسباب لتوجيه الاتهام للشخصين المذكورين وكذلك للسيد احمد هرون” (الفقرة ٩ من رد المدعي العام على الدائرة التمهيدية).
وافاد المدعي العام ان مكتبه قد توصل الى انه لابد من توفر بينة اضافية اذا اريد جعل هذه القضايا جاهزة للمحاكمة trial-ready (الفقرة ١٠ من الرد). وبالصريح الواضح يعني هذا ان البينة المتوفرة لدى المدعي العام ضد مولانا أحمد هرون ليست كافية، وربما لم تكن هناك أصلا أسباب معقولة لتوجيه الاتهام.
لكن لماذا يصدر هذا الإعلان الأمريكي بالمكافأة في هذا الوقت بالذات. هنا أذكر القارئ بقرار مدعي عام الجنائية في ١٤ يوليو الماضي بفتح تحقيقات في الجرائم الجديدة التي ارتكبتها ميلشيا الدعم السريع في دارفور بعد اندلاع هذه الحرب. وحين التقى مدعي الجنائية بالفريق اول البرهان في سبتمبر ٢٠٢٣ في نيويورك على هامش اعمال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة أبلغه رسميا بفتح تلك التحقيقات الجديدة. وأعرب له البرهان من ناحيته على استعداد السودان للتعاون معه.
لم يرشح عن ذلك الاجتماع ما يفيد ان المدعي العام قد طلب انهاء تفعيل “التكاملية” وتسليم المطلوبين السابقين.
بل لم يرشح أي حديث أصلا عن أولئك المطلوبين أو حتى سؤال عن حالهم ومآلهم. وانما كان تركيز الاجتماع على التحقيقات الجديدة وعلى تمكين من يحققون فيها من أداء مهامهم. في نهاية الأسبوع الماضي تحرك المدعي العام ميدانيا وزار يوم السبت ٢٨ يناير معسكرات اللاجئين السودانيين في تشاد. وقدم المدعي العام اليوم احاطة لمجلس الامن عن القضايا التي يتابعها في دارفور بلغت نحوا من عشرين دقيقة انصبت كلها حول التحقيقات الجديدة، ولم يتطرق فيها للقضايا القديمة الا في لمحة سريعة لم تتجاوز الدقيقة الواحدة. وبالقطع لم يطالب حكومة السودان بتسليم احمد هرون او أيا من المتهمين. ويتوقع ان يتقدم المدعي العام بطلب للدائرة التمهيدية بالمحكمة لتوجيه الاتهام ضد قيادات الدعم السريع. وربما تشمل لائحة الاتهام الجديدة أسماء كبيرة في قيادة الدعم السريع. وهذا تحديدا هو ما يعني الولايات المتحدة. فبالنسبة لها فان توجيه مثل هذه الاتهامات يعد عملا سياسيا من الدرجة الأولى وليس إجراء عدليا. ومن ثم قررت الولايات المتحدة ان تتدخل على نحو استباقي لاحداث “موازنة” على طريقتها المعروفة. اذ ليس من مصلحتها السياسية ان يصور “المجتمع الدولي”، الذي هو تعبير يشير للولايات المتحدة ومن معها، وكأنه يسلم بانتهاكات الدعم السريع وحدها.
ومن ثم تفتقت عبقرية القائمين بالامر في الخارجية الامريكية عن فكرة اعلان تلك الجائزة على طريقة الكاوبوي. اما مقتضيات العدالة، سواء في القديم من التحقيقات او الجديد، فذلك آخر ما تأبه له أمريكا.
٣٠ يناير ٢٠٢٤