العبيد أحمد مروح
(١)
إحتشد بالأمس الآلاف من السودانيين، في العاصمة الخرطوم، وتحديداً في “ميدان كوبر” بالخرطوم بحري، إستجابة لدعوة قدمتها لجنة أهلية تحت شعار “فاقدنك” يا البشير، أي افتقدناك؛ ومن الواضح أن اللجنة التي رتبت لإفطار الأمس قصدت أن يتزامن مع الذكرى الرابعة لسقوط نظام الإنقاذ الذي كان على رأسه المشير البشير!!
قد يبدو المشهد للمراقب العادي سريالياً، إذ كيف لرئيس أطاحت بحكمه “ثورة” شعبية قبل أربع سنوات، أن تخرج جماهير بهذا العدد أمس وفاءً له، وفي ظل ظروف في غالبها عدائية ومليئة بخطاب الكراهية ضده وضد أنصاره ؟
لكن المتفحص الموضوعي لسيرة الرئيس البشير من جهة، ولمسيرة الإنتقال التي أكملت اليوم عامها الرابع من جهة أخرى، يدرك أنه ليس من سبب واحد دفع الناس للخروج، بل هي أسباب عدة، سنحاول في هذا المقال أن نأتي على ذكر أبرزها.
(٢)
معرفتي بالرئيس البشير، ليست معرفة سماعية، وليست عابرة، فقد التقيته مصادفة أكثر من مرة أيام التعددية الثالثة (١٩٨٦- ١٩٨٩)، في منزل الأخ والصديق أبو القاسم حسن صديق، صاحب دار “إقرأ للتوزيع” وكنت وقتها صحفياً، وكنت كل ما أعرفه عنه كونه ضابط في القوات المسلحة وإبن خالة أبو القاسم، فقد كان البشير يحرص على وصل أرحامه في أنحاء العاصمة حينما يأتي الخرطوم من مختلف المواقع التي كان يعمل فيها. وعلى الرغم من أن الحديث لم يكن يتطرق للسياسة، إلاّ أنني كنت ألمس فيه روح الطرفة والدعابة، وألحظ حرصه على صلة رحمه.
بعد عام من نجاح “ثورة الإنقاذ” في الوصول إلى السلطة، اختارني الأخ الدكتور الصادق الفقيه لأكون مساعداً له، وكان الصادق وقتها يشغل منصب المستشار الإعلامي للرئيس، وعلى الرغم من كوني بقيت في تلك الوظيفة لنحو ثمانية عشر شهراً فقط، وغادرتها مفصولاً للصالح العام –وتلك قصة أخرى – إلا أن ذلك الموقع أتاح لي فرصة التعامل المباشر، وبشكل شبه يومي، مع الرئيس البشير في تلك المرحلة المهمة والمبكرة من عمر الإنقاذ ، وربما يأتي اليوم الذي يدلي فيه المرء بشهادة مطولة عمّا رآه من أحداث ووقائع أو كان حاضراً في مطبخها.
وطوال الثلاثين عاماً من عمر الإنقاذ، جرى تكليفي بعدة مواقع قيادية إعلامية و دبلوماسية ، كانت بطبيعتها لا تقتضي المكوث أطول من دورة واحدة أو دورتين في المنصب، لكني كنت في أغلب تلك الفترات قريباً من القريبين من الرئيس، وكنت أحياناً ألتقيه في معية وزير الإعلام أو وزير الخارجية أو أحد مستشاري الرئاسة، وبطبيعة الحال كنت ألحظ أثر الخبرة التراكمية التي اكتسبها الرئيس البشير وهو في سدة الرئاسة مقارنة بما كان عليه في أول عهده.
(٣)
لم أعتبر أن هذا الرصيد من التعامل المباشر وغير المباشر، مع الرئيس البشير، وحده كافياً للإدلاء بشهادةفي حقه أو حق فترة حكمه، ولذلك فقد حرصت خلال الأعوام الأربعة الماضية أن ألتقي وأتحدث مع عدد غير قليل ممن عملوا معه في كابينة الفيادة خلال عشريات الإنقاذ الثلاث، في وزارات أو مؤسسات تتعامل معه بشكل يومي، مثل رئاسة الجمهورية أو أجهزة المخابرات والاستخبارات أو في ملفات السلام والعلاقات الخارجية، وكلها جهات مرتبطة بالأحداث الكبيرة والمحطات الرئيسية التي عبرتها الإنقاذ في مسيرتها.
وكنت مع كل مَن ألتقيتهم أحرص على توجيه أسئلة محددة حول قضايا بعينها تمت إثارتها، إما على مستوى الرأي العام أو في مستوى الدوائر الحزبية، وكنت أناقش واستقصي حتى أتمكن من الإحاطة بكل زوايا الموضوع أو جلها، لأني أدرك أن بعض أسرار الإنقاذ لم يحن وقت إخراجها، وبعضها قد لا تخرج أبداً.
وعلى الرغم من أن الإنقاذ كانت في جوانب كثيرة من مسيرتها كتاباً مفتوحاً، إلا أن طبيعة بعض الملفات، والأوضاع الراهنة التي تعيشها بلادنا، تقتضي أن تظل بعض الأسرار طي الكتمان، كما أنه من المهم الإشارة إلى أن الأمر أحياناً لا يتعلق بالوقائع التي هي ليست محل خلاف، وإنما يتعلق بتفسير تلك الوقائع على ضوء السياق الذي وردت فيه.
(٤)
الحكم على تجربة الإنقاذ التي قادها الرئيس البشير ليس أمراً سهلاً، خاصة لمن أراد أن يتحرى التوازن والموضوعية والنزاهة، ولست هنا بصدد إصدار أحكام، فذلك شأن الباحثين والمؤرخين النزهاء. لكني اليوم – وقد مضت أربع سنوات على سقوط حكم الإنقاذ – أود أن أعطي إشارات مجملة في هذا الصدد، بالتركيز على الرجل الذي قاد ذلك النظام وشكل رمزاً له طوال العقود الثلاثة التي حكم فيها.
وأول إشارة مهمة في هذا الجانب، للمدقق المستبصر، هي أن الإنقاذ التي سقطت في الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩م ليست هي الإنقاذ التي استولت على السلطة في الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م، ولا هي الإنقاذ التي بدأت مسيرتها بعد عشر سنوات من ذلك، تاريخ ما عُرف بمفاصلة الإسلاميين.
لقد تبدلت رؤية النظام لكيفية إدارة السلطة، وأساليب التعامل مع المعارضين ومع العالم الخارجي تبدلاً جوهرياً، إذ صار النظام أكثر انفتاحاً على الآخر وأكثر تقبلاً له وتشاركاً معه، وذلك لأسباب عديدة يمكن إجمالها في أن الإسلاميين الذين شكلوا الكتلة الرئيسية في السلطة أضحوا أكثر نضجاً وإدراكاً لطبيعة حكم السودان، وأكثر وعياً بطبيعة المخاطر التي واجهت وستواجه نظامهم.
(٥)
خلال ثلاثين عاماً، قاد الرئيس البشير سفينة الإنقاذ، وسط بحر متلاطم الأمواج من التحديات. تحديات داخل منظومة الحكم التي ينتمي إليها، وأخرى في مواجهة تحالف المعارضة الذي مارس ما هو مباح وما هو محرم من الأساليب للإضرار بالنظام وإسقاطه، وثالثة في مواجهة ما يسمى بالمجتمع الدولي، والذي هو في حقيقته يمثل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين، وكان يصر على تفكيك قبضة النظام على السلطة أو إسقاطه إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ وهم كذلك استخدموا أساليب الحرب الإعلامية والحصار الإقتصادي والدبلوماسي، وقدموا كافة أشكال الدعم للمعارضين، بما في ذلك الدعم العسكري.
وقد كان لكل واحد من هذه الجهات الثلاث، أثره في إضعاف النظام؛ فأنا لا يراودني أدنى شك في أن التنافس على السلطة داخل صف الإنقاذ وحزبها الحاكم، وبغض النظر عن دواعي ذلك التنافس، كان هو المدخل الأهم لإضعاف الصف الداخلي واختراقه لاحقاً، والحال هكذا، ليس من الإنصاف أن يتحمل الرئيس البشير نتيجة سقوط نظام الإنقاذ وحده، برغم من كونه كان يرأس ما يسمى بالحاءات الثلاث.
كما أنه من الثابت أنه ما مِن نظام حكم السودان، وجد معارضة بالشراسة وتعدد الأساليب مثلما وجد نظام الإنقاذ من معارضيه، كما أنه ما مِن نظام مدّ يده لمعارضيه الذين حملوا السلاح في وجهه مثلما فعل نظام الرئيس البشير. ولو كان من عبرة تعنينا في هذا السياق، فهي الإشارة إلى حجم الضغوط التي تعرض لها الرئيس البشير، بشكل يومي، وهو معني بملفات الحرب والسلام والعلاقات الدولية، وفي ذات الوقت بملفات التنمية والبنى التحتية والتعليم والصحة، وبقية واجبات الحكم والتكليف.
(٦)
تتجمع على طاولة الرئيس بشكل يومي تقارير خاصة تعدها الجهات المعنية في الدولة، فهناك التقرير الرئاسي الذي تعده وزارة الخارجية، ويعكس نشاط الوزارة على مستوى الرئاسة ومستوى بعثاتها في الخارج، وهناك التقرير الذي يعده جهاز المخابرات العامة وهناك تقرير هيئة الاستخبارات العسكرية وهناك التقرير المختصرللحالة الجنائية الذي تعده وزارة الداخلية، فضلاً عن تقارير الإعلام وغيرها.
ويلتقي الرئيس بشكل يومي، إما بمبعوثين دوليين أو بسفراء أو بمسؤولين في الدولة، ويعقد بشكل دوري، كل أسبوع إجتماعاً لمجلس الوزراء ويبحث على هامشه عدداً من الملفات مع الوزراء المعنيين، ويرأس الرئيس إجتماع المكتب القيادي للحزب الحاكم ويتم فيه استعراض أداء قطاعات وأمانات الحزب. ويشارك الرئيس في قمم على المستويين العربي والأفريقي، حيث يلتقي على هامشها بنظرائه، ويبحث معهم القضايا ذات الاهتمام المشترك، ويستقبل الرئيس قادة دول ورؤساء منظمات، كما يسافر هو ليلتقي بهم في إطار العلاقات الثنائية.
ما أود قوله هو أن الرئيس – بطبيعة منصبه – يتعرض،وبشكل يومي، إلى سيل من التقارير والمعلومات، لا تتفق بالضرورة في توصيفها لهذه القضية أو تلك، وأحياناً تتعارض حتى، وعلى الرئيس في هذه الحالة أن يمسك برمانة الميزان ليفصل بين الرؤى غير المتجانسة بين مؤسسات الدولة، وأحياناً بين مؤسسات الدولة والحزب؛ والحال هكذا فليس بالضرورة أن تأتي توجيهاته أو قراراته متبنية لتوصيات هذا الطرف أو ذاك، مما قد يخلق قدراً من عدم الرضا عن تلك القرارات وربما يصل الأمر ببعض الأطراف ذات القدرة على التأثير أن تسعى لعرقلة تنفيذها أو عدم القيام بالجانب الذي يليها فيه.
(٧)
خلال العشرية الأخيرة، سعى الرئيس البشير للتخلي عن منصبه أكثر من مرة، وطرح على قيادات في الحزب أنيجهزوا البديل، وكان جاداً في ذلك وفق استخلاصي من الإفادات التي سمعتها، لكن أطرافاً في الحزب وأخرى خارجه، كانت تسعى لكي لا يتم ذلك، لتقديرات تراها صائبة، وبغض النظر عن دوافع ذلك، فالثابت أن البشير لم يكن متمسكاً بكرسي السلطة بشكل مطلق، لكنه على كل حال لم يشأ أن يتخذ القرار منفرداً، ولعل في هذا كان مقتل نظامه.
وربما جاز الاستنتاج أنه لو اتخذ قرار التنحي منفرداً لبقيت الإنقاذ في نسختها الرابعة إلى يومنا هذا، وعلى كل حال فقد كان البشير بصدد إتخاذ قرارات مصيرية تغير من معادلة السلطة القائمة وقتها، ولكن رجاله المقربين إستشعروا ذلك فقرروا استباقه، فكان القدر المكتوب.
يأخذ البعض على الرئيس البشير، أنه كان ينفرد باتخاذ القرارات، وأنه في سنوات حكمه الأخيرة كان لا يستمع إلى الرأي المخالف داخل مؤسسات الحزب، وقد تقصيت عن هذه المقولة على وجه التحديد، ووجدت أن سندها ضعيف، فالبشير كان يتعمد أن يعطي فرصاً لحملة وجهات النظر التي غالباً ما تكون مخالفة، ومن هؤلاء الدكتور نافع علي نافع و الدكتور أمين حسن عمر، وإذا كان هناك من بين أعضاء المكتب القيادي مَن كان يبحث عن موجة الرئيس البشير فيعزف على نغمها، فذلك شأن لا يُلام البشير عليه، بمنطق السياسة.
أما في شأن التعيينات الدستورية والقيادية العليا، سواء على المستوى الإتحادي أو الولائي، فمن النادر ما أشار الرئيس البشير إلى رغبته في تعيين هذا أو إعفاء ذاك، وأستطيع القول بكل ثقة أن نسبة هذا في قراراته طوال الثلاثين عاماً لا تكاد تساوي خمسة بالمئة، وحتى هذه النسبة لا يفرضها وإنما تكون له فيها تقديرات موضوعية. والقرار الوحيد الذي اتخذه البشير دون عرضه على المكتب القيادي أو البرلمان هو قرار المشاركة في عاصفة الحزم .
(٨)
غير أن الأهم من هذا كله بتقديري، هو أن الرئيس البشير كان “ود بلد” غيوراً على وطنه وعلى دينه وعلى سمعة المؤسسة العسكرية التي كان أحد رمزها وأحد أبرز مَن قدموا لها يد التطوير والتعمير والتحديث.
كان البشير يحرص على مواصلة الناس في أفراحهم وأتراحهم، وكان حريصاً على التواصل مع رموز المجتمع بشكل مباشر أو غير مباشر، وكان يمد يد العون لأصحاب الحاجات، ولا يكاد يمر يوم إلا وهو في المقابر لتشييع أحد أو في مسجد أو صالة أفراح مشاركاً أحداً فرحه بزواج إبنه أو بنته .
وكان البشير عزيزاً في نفسه، ويأبى الضيم لوطنه، وقد عُرف عنه “صرفه للبركاوي” لكل من يتطاول على السودان. وقد عرض عليه عدد من القادة الخليجيين في سنوات حكمه الأخيرة أن تعال وانخرط معنا في هذا الحلف الإقليمي أو ذاك، وكل مشكلات بلادك سوف تُحل، لكنه اعتذر بلطف، وكذلك فعل عندما عرض عليه زعيم عربي آخر أن يتنحى وأن يتفرغ للأعمال الخيرية والإنسانية، وهو –الزعيم العربي – ملتزم بتوفير متطلبات ذلك، لكنه أيضاً لم يقبل. .
ويكفي الرئيس البشير عزة أن رفض أعطيات سجانيه بالمشاركة في دفن والدته و زوجته وأخويه، كما رفض عروضاً أتته بمغادرة السودان والعيش في الخارج في إطار صفقة سياسية كان يجري الترتيب لها.
(٩)
تسألني هل كانت الإنقاذ نظاماً بلا أخطاء، وهل كانت كل القرارات التي اتخذها البشير خالية من الأخطاء؟ وأجيبك تجربة الإنقاذ كان بها الكثير من الأخطاء مثل ما بها الكثير جداً من الإنجازات والأعمال الجليلة، وأضيف إليك أن البشير كان بشراً يخطئ ويصيب، وأن قدراً من الأخطاء الصغيرة والكبيرة وقعت في عهده، كان يمكن ألاّ تقع، وأنه لو استقبل من أمره ما استدبر، لغير كثيراً من قراراته وبدل عدداً من مواقفه، تجاه دول أو أفراد، لكنه قدر الله النافذ هو الذي ساقه إلى ما هو فيه اليوم، وساق بلادنا إلى حالة التردي التي نحن فيها.
أما عن تجربة الإنتقال التي بدأت قبل أربع سنوات، فيكفيها بؤساً أنها جعلت سقف طموح الغالبية العظمى من الناس هو العودة إلى ما كان عليه الحال أيام الإنقاذ الأخيرة، وهي أيام حتى أهل الإنقاذ كانوا بصدد مغادرتها!!