تَمُرُّ علينا بعد أيامٍ قلائِل الذكرى الثامنة والستون للإستقلال (إنْ كُنتُ دقيقاً فى الحساب) وبلادنا لاتزال ترتفع فيها أعمدة الدخان والحريق الذى أحدثته المليشيا بعد أن رأت فى نفسها قوةً وعلتها الفَورَة التى مصيرها إلى زوال بدلاً عن تلك الرايات بألوانها الزاهية أخضرها وأحمرها ، أبيضها وأسودها التى كانت تملأ سماء الوطن إحتفالاً وإحتفاءًا بتلك الذكرى العزيزة على قلوبنا .. فالأول من يناير من كل عام ليس حدثاً تأريخياً قد مضى وإنتهى بل هو تجسيدٌ مستمرٌ للكرامة الوطنية وللتضحية والصمود وحُلمُ أهل السودان فى السيادة والريادة ..!!
لقد عاش جيلنا والجيل الذى سبقنا والذى أتى من بعدنا إختلالاً فى معانى الإحتفال بذكرى الإستقلال التى لم تكن تستثير فى نفوسنا ونحن صغاراً فى السن ما حققته إرادة الأبطال من الرواد الأوائل وما قدموه من عطاءٍ وتضحيات شهد لهم بها التأريخ ، وخَفَتَ بريق تلك الذكرى بعد أن إنصرف الإهتمام الأكبر والإحتفال بذكرى ثورة مايو وطلائعها ، ومن بعدها الإنقاذ حيناً من الدهر .
وأمَّا وقد عرف أهل السودان المعنى الحقيقى لقيمة الوطن (ومن عرف الحق عزَّ عليه أن يراه مهضوماً ) بعد هذه الحرب الوجودية التى كادت أن تضيع فيها بلادنا من تحت أيدينا لولا أن قيَّض الله لهذا الوطن رجالاّ أماجد من قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية وبعضاً من أبناء هذا الشعب الذين إستعذبوا القتال والجوع والعنت والمشقة وكانوا ينتقلون من معركةٍ لأخرى كما الفراشاتِ بين الأزاهر يضحون بأرواحهم ويبذلون دمائهم ليهبوا للإنسان السودانى معنى أن يعيش وينتصر وعذب الحياة الكريمة ، ومثلوا نموذجاً فريداً لتحليهم بقيم البذل والعطاء والتجرد .. فعلينا بعد كل الذى أحدثته المليشيا وآذتنا وأهلكت حرثنا أخذ العظة والإعتبار وعقد حلف مجتمعى وتواثقٌ بين أهل السودان بأن لا يتكرر ماحدث فالمؤمن لا يُلدغ من جُحرٍ مرتين .. فالإنتصار الحقيقى على كل المؤامرات الإقليمية والدولية لا يتحقق إلاَّ بتسوير بلادنا وإحاطتها بسياجٍ متينٍ من التوحد والوئام والتضامن والسلام ، وتحويل المحنة التى تعرضت لها إلى تصالح وتسامح ، وأن نتجرد جميعاً عن الذات ونترفع عن المصالح الحزبية والمناطقية والثأرية والتخوينية والتكفيرية ، والتحرر من قانون الإقصاء وإقصاء الإقصاء الذى كاد أن يُصبح عنواناً لدولتنا وكاد أن يُقصينا جميعاً ويخرجنا من ديارنا جزاءًا على ما فرطنا فى حقها وفى أمنها وإستقرارها لولا لطف الله بنا .
وفى ظلال هذه الذكرى العزيزة من واجبنا أن نعمل لسودانٍ آمن يعم الخير كل أجزاءه .. حاضرته وباديته ، وأن نسعى لإستقرار الأمن فيه وإزدهار العلم .. وأن لا نُضيَّع تلك الدماء الغالية التى سالَتْ والأُسر التى شُرِّدَتْ والمصالح التى تَعَطَّلَت من أجل أن تكون راية بلادنا عاليةً خفَّاقة وهو ما نراه الآن قد بدأ يتحقق بتحرير العديد من المواقع من أيدى المليشيا فى سنجة وسكر سنار وغيرها فى طريق التحرير الكامل ولله الحمد والمنَّة بجهود أبطالنا البواسل .
نعم ستكون هنالك بلا شك أعباءًا ثقيلة تنوءُ بها العُصبَة أولوا القوة فى البناء والتنمية بعد إكتمال النصر والقضاء على هذه المليشيا المجرمة .. فالتحلل من القيود التى أعاقت إزدهار بلادنا والفكاك منها يحتاج هِممَاً جبَّارة وعناءًا مُضنياً لتنكسر تلك القيود ليكون إستقلالنا حقيقياً ولترتفع الراية فى قلوبنا ونتمثلها فى حياتنا لامجرد أهازيج تترنم بها أجهزة الإعلام الرسمية فقط ( اليوم نرفع راية إستقلالنا ) .. والكل منشغلٌ بالإحتفال بليلة رأس السنة الميلادية بكل هياجها وسُعارها ولاعزاء للإستقلال ..
نُريد بعد أن تنتهى الحرب إحتفالاتٍ مغايرة بهذه الذكرى نرى فيها تعليماً حقيقياً مواكباً لسوق العمل لأبناءنا لا جهل معه .. وإقتصاداً حقيقياً لدولتنا لا فقر بعده .. ونُعيد فيها أخلاقنا السودانية وقيمنا الأصيلة التى أصابها الإنحلال فى بعضها وبناءها من جديد .. نُريده إستقلالاً نقتلع معه كل خصوماتنا السياسية والقبلية من جذورها .. نُريده إستقلالاً نؤسس فيه لألفتنا وتواددنا وتراحمنا من جديد .. حتى يكون للإستقلال معنىً فى وجداننا وللفرح طعماً فى حياتنا .. والحمد لله الذى أحيانا حتى نرى شبابنا وقد ملأهم الأمل والصدق وحب الوطن يبذلون المهج والأرواح ليكون سوداننا جميلاً يسر الناظرين وأخضراً حلواً يأسر الحاضرين ويشجع المهاجرين من أبناءه للعودة إليه ومن أصحاب الأموال للإستثمار فيه بعد أن كاد يملؤنا اليأس من تلك الهتافات المنكرة ( معليش معليش ما عندنا جيش .. وكنداكة جات بوليس جرى .. ) وغيرها من القاذورات .. وهذا هو سِرُّ الإنتصار والمعنى الحقيقى للإستقلال وفى ذلك فليتنافس المتنافسون .
حفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء وكل عام وسوداننا بألف خير .
✍🏼 لواء شرطة (م) :
د . إدريس عبدالله ليمان
الثلاثاء ٥ ديسمبر ٢٠٢٤م