–
أود أولا أن اعترف أنني لا أقتني مطلقا “آي فون” وقد بعت جهازا أهدى إلي من صديق عزيز، بل إنني ومنذ فترة طلقت السامسونج وتوجهت نحو الصيني ولا أشتريه من دبي ولا جدة ولا غيرهما، بل من السودان ومن عمارة السلام – موقف جبرة القديم وتحديدا من (الدليل) ود كوستي منذ العام 2013 لأنه يضع الموبايل في التجربة لمدة أسبوع ثم يخبرني أنه تمام وأشتريه، وأحيانا يقول لي “فيه تقل شوية” فأختار بديلا ويخضع لذات التجربة. وإذا كنت بهذا الجوال أدخل في سمنار في واشنطون عن النزاع الصومالي الكيني على الحدود البحرية أمام محكمة العدل الدولية وأجد صورتي أفضل وصوتي أنقى من معظم الحضور ما هي جدوى “آي فون”؟ وعندها أردد في سري “دا الحالة شاومي مستعمل؟”.
المهم، الفترة التي أقضيها في عمارة السلام والسوق العربي أدقق في أشياء كثيرة في الذوق العام وفي النقاش وسط زحام لا يعترف بالكرونا ولا الحكومة ولا الأمم المتحدة ولا محور خليجي ولا أوربي.
في الكرسي جواري مبرمج أجهزة وبائع صوتيات في الممر ليس لديه ولا حتى بترينة، جاءه مشتري وقال له بالله داير (فلاش) الشيخ محمد سيد حاج، و(فلاش) كوكتيل جديد – اتضح أنه يقصد به أحدث الأغاني. المشتري صاحب كافتريا افتتح فرعا جديدا له وبعد الونسة في القهوة، الرجل لا صلة له بأي اتجاه أو حزب، سوداني عادي ولكن الجمهور يرغب في محمد سيد حاج السلفي القح، بالذات من الصباح “وقت التلقي والإستيعاب” وليس الترفيه والترويح.
ركزت بعدها على الكافتريات، فعلا وجدت الناس يستمعون للشيخ محمد سيد بشغف وكأنه على رؤوسهم الطير وهو يرجم في العلمانية والجمهوريين وفي كل ما يقوله وهو رجل متوفي إلى رحمة الله ولديه شعبية كاسحة ولا توجد جهة خلفه تروج له ولكنه إختيار جماهيري مجمع عليه بعد وفاته أكثر من وقت حياته.
لم يسوق له مستشارون ولا خبراء روس ولا شركات إعلامية ولا جداد إلكتروني ولا .. ولا …
محتوى إعلامي سلفي أصولي قوي مطابق للوجدان السوداني وفائز باستفتاء طوعي على مدى عشرين سنة على الأقل.
هل السوق العربي ورواد الكافتريات والمطاعم العامة هم شريحة كادحة أو جهة يمكن أن تصنيفها أنها “غير مؤثرة” أو “غير مستنيرة” كما يحلو للبعض تصنيف التوجه الإسلامي أنه مسألة قديمة؟ أبدا! هذه الأماكن فيها الكادحين وفيها المليونيرات والمغتربين والطلاب وحملة الدكتوراة. عادي جدا أن تجد محامي وموثق معروف يضرب موعدا مع عملاء لتجهيز شركة أو إجراءات أراضي بقيمة تضاهي ما صادرته “لجنة التمكين”. ما لدى الشعب السوداني في الإقتصاد غير الرسمي أكبر مما هو داخل مظلة الإقتصاد الرسمي.
عادي جدا أن تجد أحد المغتربين يبحث عن “عصيدة دخن” وياكلها بشغف لأننا في السودان، وواهم من يظن أن الصفقات الكبرى في السودان تعقد في فنادق روتانا وكورنثيا. اذهبوا إلى “شاي الشروق” قبالة البرج الأبيض تجدون كتابا ورؤساء تحرير وأقطاب سياسية ومالية كبرى تناقش وتفند “صفقة زبيدة”، مع “اللقيمات”!
المهم في هذه النقطة .. أن الحديث عن أن التوجه الإسلامي في السودان باعتباره مسألة تهتم بها أحزاب وتهاجمها احزاب في السودان .. وانه تمت شيطنته .. مجرد أحلام سعيدة.
ليس التوجه الإسلامي بل والخطابة السلفية معه باتوا جزءا من الوجدان السوداني وهي خيارات شعبية مفحوصة ومعتمدة نهائيا، لم تفلح محاولة توظيف خطايا التطبيق والممارسة في حقبة الإنقاذ بالإجهاز علي التوجه الإسلامي. كل ما حدث هو تلطيخ بالوحل زال تحت الأمطار الغزيرة في الحكومة لأنها كانت ولا تزال “راكوبة خريف” وما تبقى من الصراع حول التوجه الإسلامي الآن مجرد مرارات آيدولوجية بين اليمين واليسار النخبوي في “قعدات” سياسية ولقاءات سفراء ومناديب و “مباعيث” هم أنفسهم أكثر من “راح ليهم الدرب في الموية”.
تأتي مبعوثة أوربية مثلا .. فتتجهز لها الساحة السياسية والصحفيون وتتلقى بعض التقارير و”يقشر” البعض بصور معها .. وتحمل معها صورة ناقصة وإنتقائية وتمضي. أما الإدانات التي يتم توثيقها على العسكريين بأيدي المدنيين “الواهمين بالغرب” يعاد تدويرها سياسيا ثم تتم المقايضة بها في أقرب أزمة سياسية مع العسكريين أنفسهم ويترك الغربيون الضحايا في العراء مجددا ومثل ما يفعلون مع أي دولة.
الدعم المالي ياتي لبعض المنظمات تحت أوهام أنها ستغير السودان وأنها ستنشيء جيلا جديدا ورأيا عاما جديدا مناهضا للإسلاميين .. لنعود ونكتشف أن أي علماني ظاهر وسافر سيسقط في الإنتخابات .. وهو نفسه يقر بذلك ويطالب بعشرة أعوام إضافية .. “حكم كيري” بدون شرعية ولا انتخابات ولا حتى في نقابة مزارعي الرهد أو اتحاد عمال الميناء .. فقط بحجة شرعية من ثوار باتوا يطردونه من مظاهراتهم!
هل كانت هنالك فرصة لعلمنة السودان؟ أجبت على هذا السؤال في ثلاثة مقالات باللغة الإنجليزية ودار فيها نقاش كبير مع كل الأطراف حتى السفراء و”المباعيث” ودونكم أرشيفي في “ذا براون لاند” فيه كل التفاصيل، وخلاصته .. كانت هنالك فرصة للعلمانية و”ضاعت” بل ارتدت بالسالب والنقيض بسبب تجربة قحت الأولى في الفشل التنفيذي والإصرار على “غرغرة” الشعب السودان أفكار مثل ترهات القراي عن أن الإنسان “زوج الله” مثلا.
الأطراف الغربية التي جادلتني بزهو وإعجاب بقحت في بداية أيامها هي التي عادت إلى لاحقا وذكرتني بما كتبت .. وتسائلت بتهذيب .. So, What is the way out?
تواصلت أيضا مع أشقائنا العرب .. الذين كانوا يرون أن ما حدث في مصر يمكن أن يحدث في السودان، وفي الجلسات الخاصة بات الرأي مختلفا. اشتكوا من “الجحود اليساري” والشتائم والهتاف والسباب ضدهم من أصدقاء الأمس .. اشتكوا من تراجع الإستثمارات وهروب شركاتهم.. وبالحرف قالوا لم نكن نتوقع بتاتا أن النظام السابق أفضل.
الغربيين أكثر واقعية .. لأنه لا توجد لديهم ثوابت وتصنيفات حادة أما أشقائنا العرب مشكلتهم أن هنالك طبقة مستشارين منتفعة من التحريض .. رفعت لهم سقف التدخل وباتت ملزمة بتعديل الخطط كل مرة .. وهم الآن من فشل إلى فشل .. وجاء بايدين وتنكر للخليج وغازل إيران .. ثم الزمهم بمصالحة قطر وبمفاوضات بغداد بين العرب وإيران .. ولا زالت هنالك مجموعات منتفعة تقتات على تصوير أعداء وهميين للخليج في السودان. وآخر همساتي لأحد الأذكياء المحبين للسودان .. من صور لكم أصدقاء وهميين بالتأكيد يجب أن تراجعوا قائمة الاعداء الوهميين التي صورها لكم.
عودة للشيخ محمد سيد حاج “خيار الشعب السوداني” رحمة الله عليه .. دعونا نؤكد أن الشعب السوداني لم يصبح سلفيا، ولكن كل الذي حدث أن السلفيين باتوا مرجعا من مراجعه في التوجهات المشكوك فيها والفاشلة ..!
هل هذا خصما على الصوفية؟!
الصوفية الراعية للخلاوي والمستضيفة لعشرات الآلاف من طلاب القرآن من السودان ومن أفريقيا .. هي العمود الفقري للتوجه الإسلامي السوداني .. حتى السلفيين درسوا في خلاويها .. لكن الصوفية بفهم أن يتم توظيفها ضد التوجه الإسلامي Game is over
في مقالاتنا السابقة ذكرنا بأنه من عيوب حكومة قحت أنها سجلت غيابا مريعا .. فمشائخ الصوفية منذ عهد الإنجليز ومرورا بكل العهود الوطنية لا يمكن أن تغيب الدولة من حولياتهم ولا تشييع شيوخهم ولا حتى مرضهم في المستشفيات .. والدولة هنا ليست وزير الإرشاد والأوقاف “المتحدث بغير عطاء” .. بل رأس الدولة ذاتها .. وهم بكل بساطة انتظروا وانتظروا ووجدوا قحت في وادي آخر .. يذهب حمدوك لزيارة الجمهوريين ويجلس على “عنقريب” محمود محمد طه ويسجل غيابا كاملا فترة حكمه من الصوفية باستثناء حوادث نادرة ويتيمة مثل الصلاة مع الشيخ الياقوت .. والتي جاءت بعد نقد عنيف استمر طيلة حكمه وبعد الإطاحة بطاقمه القديم من المكتب وفشل المشروع العلماني نفسه .. جاءهم مجبرا لا مختارا والتقط صورة له معهم ومضى.
كم شيخ توفي؟ كم شيخ رقد طريح المستشفى؟ كم شيخ أقام سنويته؟ وافتتح مسيدا جديدا أو مدرسة إسلامية؟ والحكومة غائبة تماما، ووالية نهر النيل تتحدث عن هدم سد مروي، ووالي آخر .. يخرج من مرافقيه ليتبول أمامهم في حائط، ووالي ثالث يقول لجماهير أوقفت سيارته .. ما بنزل ليكم لأنه ما عندي ليكم حاجة، وآخر يلعب كوشتينة مع الرفاق اليساريين.
المهندس عبد الله مسار والي نهر النيل في النظام السابق .. مر بترعة “كاسرة” في مشروع خاص .. فشمر ساعده واستأجر من يصينها .. ثم انطلق بعدها وسأل من صاحب المشروع وبكل بساطة يقول له .. ترعتك كانت كاسرة ومغرقة الشارع .. وأجرت ناس من جيبي صانوها .. كان رجعت لي القروش شكرا .. كان مارجعتها عافيها ليك.
هذه طريقة التعامل مع الأصلاء من أهل نهر النيل التي تدفع صاحب مشروع خاص لسداد المال وصيانة الطريق نفسه .. تقول لي “هدم سد مروي”!
في جانب الصوفية .. هم أنفسهم بعد أشهر قليلة بدئوا بالمقارنة بين مزاحمة كل قيادات الأنظمة السابقة لهم بالكتوف في الأفراح والأتراح والذين يحضرون فقط فعاليات سيداو في فنادق الخرطوم.
هذا هو الذي هزم المشروع التقدمي العلماني السوداني .. الإنسلاخ من التاريخ والجغرافيا والثقافة والتراث .. لا مكر “كيزان” ولا سطوة عساكر ولا دولة عميقة ولا يحزنون .. البضاعة كانت مغشوشة.
الإشكالية أن دعاة العلمانية السودانية لم يعوا بسبب الفشل الحقيقي .. توجهوا نحو “الإستفادة من دم” .. التحريض والإختباء .. ليس مشكلة أن يموت المزيد طالما سيتم توثيق الإدانات .. ثم ترفع تقارير ويتوهمون أن الطرف الغربي سيعيد قحت للسلطة بالضغط على العسكريين.
الطرف الغربي – بعد تلويح أو عقوبات رمزية – سيقايض العسكريين بأجندته ومطالبه الحيوية والأمنية ويبيع المدنيين والناشطين.
يرضى من يرضى ويغضب من يغضب .. التوجه الإسلامي هو الغالب على الساحة السياسية .. والبحث الآن ليس عن ناشطين ومنظرين ومتحدثين و”كفاءات عالمية” مزعومة .. البحث الآن عن تنفيذيين ميدانيين وشخصيات لمفاصل الدولة .. وإلا سينهار السودان “طوبة طوبة” .. صدقوني لن تنجح أي أجندة دولية أو تمويل خليجي أو “إعفاء ديون” فرنسي … إذا لم تكن في أجهزة الدولة ومفاصلها شخصيات تنفيذية يتم اختيارها بدون أي “فيتو” منتهي الصلاحية.
لا يوجد زمن لتجريب أو تاهيل كوادر أو صناعة سياسيين أو تنفيذيين جدد .. مضت ثلاثة أرباع الزمن وزيادة .. المطلوب الآن شخص مارس العمل التنفيذي من قبل .. وثبت أن يصلي الفجر حاضرا ويذهب للميدان بنفسه ويحضر كل الفعاليات الشعبية والإجتماعية وتواجهه الجماهير ويواجهها .. و”لا يتبول في الطريق العام” .. أما أن يكون عليه تهمة سابقة بالفساد لأنه حول بندا ماليا إلى بند آخر ثم نكتشف أن حول ميزانية “جنريتر” لسداد ديات في مصالحة على دماء .. او منشط يوم المرأة لشراء تور في حولية .. هذا لا يعني أنه حرامي أو عدو للمراة … لأنه ببساطة .. يوم المرأة ذاته مفروض على المرأة وهي لديها مطالب أخرى عجزت ما يسمى بمنظمات المرأة عن تبنيها فلجأت للتعويض بالشعارات والهتافات.
المعتمد في النظام السابق من الإسلاميين أو من حلفائهم الذي كان يحضر “دافنة” عشرة قتلى بين عائلتين وينزل في القبر .. ويسعي للصلح ويرفضوه لكنه على الأقل يمنع تحول الأمر إلى صراع بين قريتين ثم تندلع حرب بين قبيلتين .. هو شخص يجب البحث عنه حاليا والإعتذار له لأن الوهم الكبير بأن صوالين سياسية في الخرطوم تناقش في جدل الهوية وتسلخ جلد النملة وتربط مشاكل السودان في النهاية بالمفاضلة بين مدرسة “السودانوية” و “الغابة والصحراء” اتضح انه مجرد أكذوبة .. هنالك مثقفاتية وناشطين فاشلين حتى في حياتهم الشخصية .. كيف يمكن أن يصلحوا غيرهم؟ تحاوزوهم وإلا تجاوزكم الشعب السوداني.
الخطر الآن هو أنه لا توجد دولة بسبب غياب ممثليها .. أو إضاعة الزمن في تجريب فاشل.
واصلوا بهذا التجريب الفاشل مع هذه الظروف المتدهورة وأنا ضامن لكم هياجا شعبيا لا يوجد فيه مساومين بالدم ولا مقايضات خارجية .. أما محاولات التسوية السياسية الآن بآلية مشتركة لشرعنة شق مدني مع عسكري .. وايجاد صيغة لارضاء عرب وأوربيين .. وحفل دولي جديد في كورنثيا لتدشين وثيقة جديدة .. ستكون مثل من يرتدي جاكيت بذلة سوداء أنيقة وكرافتة وهو عريان “نل” بدون بنطلون ولا حتى “سروال داخلي قصير” .. دولة بدون جهاز تنفيذي ولا ولائي ولا مفاصل .. دولة عارية تصفق الريح مؤخرتها .. لن يفيدها لو كان على رأسها غطاء .. عمة سودانية أو برنيطة خواجات ولا “عقال” .. استروا عورتكم أولا ثم ابحثوا عن “الجاكيت” من شارع طلعت حرب أو مول دبي أو ماركة فرنسية!