( أيُّ صوتٍ زار بالأمس خيالي
طاف بالقلب وغنى للكمال
وأذاع الطُهر في دنيا الجمال
وأشاع النور في سُودِ الليالي ) ..
أي صوتٍ
وأي صوت !!
هذا ما أنا بصدده ..
و المناسبة ، أنني كنت و أخي المخرج الألمعي ( شكرالله خلف الله ) ، نتساقى الحديث في حديقة ( هايد بارك ) الكائنة بالموردة ، عن صنوف ( المطربين ) ، و كان من ما استوقفنا ، أن كثيراً منهم مجرد مؤدين ، لا يقدمون و لا يؤخرون ، و قِلَةٌ منهم يتخذون من فنهم ( مشروعاً ) ، يبذلون على جوانبه الجهد و الفكرة و الإتقان و المعرفة ..
قلت له من أولئك ( فُلان ) و ( فُلان )
قال لي : و ( كابلي ) ..
قلت له : ( كابلي ) إمامهم ..
وهو سادِنُ مشروع ، و مُشَرِّع و مُشرَع ..
مُشرَعٌ يَرِدُهُ الظِماء فيصدرون عنه وقد ارتووا زلالاً وسلسبيلا ..
( كابلي ) عالِمٌ ، وخبيرٌ، و باحث ،
و شيخ طريقة ..
و أنا ما رأيت مطرباً ، اجتمعت له شوارد الكلمات ، وبدائع الألحان ، و روائع الموسيقى ، و فرائد ألوان الأداء ، كما اجتمعت ( لكابلي ) ..
إنه متحدثٌ ، يأتيك حديثه كغنائه .. مُنَغَماً ، و مُنَمَقاً ، و موزوناً ، و له حلاوة
و عليه طلاوة ..
وهو شاعر يستنطق الصخر العصيّا ..
و ملحن مثَّال .. يجعل ( الكلمة الرقيقة تتفتح حديقة ، تتفجر عيون ) ..
ومؤدٍ عندما استمع إليه ..
( أُطْرِق
و لا أصدق
لأنني من فرحتي
أطير في الهواء أُحلِّق
مجلسي فوق السحاب والبروق تبرق
و أكاد لا أصدق ) ..
و صوته يحاكي صوتها ..
( صوتك كان يهدهد روحي
و يحملني في جناح أغر
يحلق بي حيث لا أمنيات
تخيب ولا كائنات تمر ) ..
ولا أجد هنا تعبيراً أبلغ مما ذهب إليه
( صفي الدين الحلي ) ..
( شجَى وشَفا ، لما شَدَا وترنما
فأنعس أيقاظاً وأيقظ نُوّما
وحَبَسَ من الأوتار مثنىً ومثلثا
فحَفَّت بنا الأفراح فرداً وتوأما
إذا رَتَلَت ألفاظُه الشعرَ مُعْرَباً
أعادت لنا أوتارُهُ اللفظ مُعْجَما ) ..
و لو لم يكن ( كابلي ) مُسْتودَعاً ، لكل هذه النفائس والمواهب والقُدُرات ، لما تَأَتَّى لنا أن تعْمُرَجوانحنا ، و تطرب نفوسنا ، و تميل رؤوسنا لكلمات تستعصي على القراءة ، ناهيك أن تُنشَدَ وتُغنى ..
و هَاكَ ( أمطرت لؤلؤاً ) ..
( نالت على يدها مالم تنله يدي
نقشاً على مِعصمٍ أوْهَت به جلدي
كأنه طُرْقُ نملٍ في أناملها
أو روضة رصعتها السُحب بالبَرَد
وقوسُ حاجبها من كل ناحية
ونَبْلُ مقلتها ترمي به كبدي
مدت مواشِطِها في كفها شرَكاً
تصيد قلبي بها من داخل الجسد
إنْسِيَّةٌ لو رأتها الشمس ما طلعت
من بعد رؤيتها يوماً على أحد
سألتها الوصل قالت : لا تغُرَّ بنا
من رام منا وصالاً مات بالكمد
فكم قتيل لنا بالحب مات جَوَىً
من الغرام ولم يُبدي ولم يَعِدِ
فقلت استغفر الرحمن من زللٍ
إن المُحب قليل الصبر والجلد ) ..
ولو أن ( زياد ابن أبيه ) ، شاعرها ، بُعث حياً ، واستع إليها من ( كابلي ) ، لحارَ ، وماصدق سمعُه ..
ومن غير ( كابلي ) كان قادراً على تطويع
قصيدة آسيا وأفريقيا !!
عندما أعزف ياقلبي الأناشيد القديمة
ويطل الفجر في قلبي على أَجْنُحِ غيمة ..
و أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمر !!
و أكاد لا أصدق ..
يا أنتِ إنني أكاد لا أصدق ..
و أين من عيني هاتيك المجالي
يا عروس البحر يا حلم الخيال ..
و ضنين الوعد
يا ضنين الوعد أهديتك حبي
من فؤادٍ يبعثُ الحب نديِّا
إن يكن حسنك مجهول المدى
فخيال الشعر يرتاد الثريا ..
و ليلة المولد ياسرالليالي ..
و أي حظٍ رُزِقْتُه في الكمال !!
و مسرح الآرام
محروم وكل محروم واقف معايا
يشكيلي واشكيلو همي وشقايا ..
و أغلى من لؤلؤةٍ بضة صِيدَت من شط البحرين ..
و حنانك ياحالم
يا الكل يوم معانا وما قادرين نقول ليك
أنك في قلوبنا وكم نشتاق لعينيك
حنانك ياحالم ..
و ماذا يكون ، حبيبتي ماذا يكون
ياجرح دنياي الذي لا يندمل
يامن تركت القلب ينزف في أنين
حسرات لحظات تولت في وجل
كصدى يطير مُضَيَّعاً عبر السنين
ماذا يكون ، حبيبتي ماذا يكون ..
و صداح ياملك الكنار
و يا أمير البلبل
حرصي عليك هوىً
ومن يُحرز ثميناً يبخلِ ..
و كسلا أشرقت بها شمس وجدي
فهي في الحق جنة الإشراق ..
و الموز روى
أنا ياناس قلبي بالنار انشوى ..
و سعادٌ وسلمى ..
و حبيبة عمري ..
( حبيبة عمري تفشى الخبر
وذاع وعم القرى والحضر
وكنت أقمت عليه الحصون
وخبأته من فضول البشر
صنعت له من فؤادي المِهاد
ووسدته كبدي المنفطر
ومن نور عيني نسجت الدثار
ووشيته بنفيس الدرر
وقد كنت أعلم أن العيون
تقول الكثير المثير الخطر
فعلمتها كيف تخفي الحنين
تواريه خلف ستار الحذر
فما همسته لأذن النسيم
ولا وشوشته لضوء القمر
ولكن برغمي تفشى الخبر
وذاع و عم القرى والحضر ) ..
إنه ( كابلي ) ..
ولا أظن أن مطرباً ، غيره يستوعبُ مجراه أنهاراً و بحاراً ومحيطات ، فيُلَحِن ويُغَني لأكابر وعظماء الشعراء ، و قد اختلفت أزمانهم وأوطانهم ، وتباينت مدارسهم ، وتناقضت اهتماماتهم ، وتفاوتت مدارجهم ، و تفرقت طرائقهم !!
أبوفراس الحمداني ، يزيد ابن معاوية ، الفيتوري ، عباس محمود العقاد ، الحَسِين الحسن ، أحمد شوقي ، إدريس جماع ، المهندس علي محمود طه ، توفيق صالح جبريل ، محمد المهدي المجذوب ، العباسي ، ، الناصر قريب الله ، محيي الدين صابر ، تاج السر الحسن ، حسن عباس صبحي ، التيجاني حاج موسى ، عبد العزيز جمال الدين ،
عبدالكريم الكابلي ، الشاعر البحريني علي شريحة ، إبراهيم عوض بشير ، عمر الطيب الدوش ، صديق مدثر ، عوض أحمد خليفة .. يا أغلى من عينيا ..
( مكتوب في جبيني غرامك وانت عارفو
باين في كلامي في عيني شايفو
قلبي دعاهو حبك كيف يقدر يخالفو
لكن بعادك طال )
ياسلاااام
غِناء في طعم الشوكولاتة والشِفاه ..
وأنت بين يدي ( كابلي ) ..
لن تُغْمِض عينيك
و لن توصد أُذُنيك
إذ كيف يقع منك ذلك !!
و أنت برفقته
تتذوق طعم السكر ..
( سكر سكر سكر
و حات عيني سكر واكتر ) ..
و تشتعل في أرجائك قناديل الفرح المُرتجى ..
( عقبال بيك نفرح يازينة
نشرب شرباتك يازينة
نوقد شمعاتك يازينة ) ..
و ترى الحُسن يضوع ويفوح ..
( حسنك فاح مشاعر وعم الطيب فريقنا
يوم ظنوك أزاهر مرت بي طريقنا
قالوا رياض غوالي
مسخ كل غالي
وما عرفوك إنت
لي أيامي زنت
وديمه بغني ليك ) ..
و تترنح في وادي الغرام بلا وعي ..
( و بي سُكرٌ تملكني
و أعجب كيف بي سُكْرُ
رددت الخمر عن شفتي
لعل جمالك الخمر ) ..
و تتقلب على فراش من جمر ..
( إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
و أذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيئ النار بين جوانحي
إذ هي أذكتها الصبابة والفكر
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر ) ..
ولا تستسلم للنهاية وتظل مُؤمِّلاً متسائلاً وأنت تلعق جراحك النازفة
( ومع السلام
لك من فؤادي باقة الحب الحنون
لك من عيوني دمعة الحزن الهتون
لك من جنوني ياجنوني ألف لون
لك من فؤادي مايكون ولا يكون
ولك السلام ولهفتي وتساؤلي
ماذا يكون حبيبتي
ماذا يكون ) ..
و يلسعك ليل الغربة الموحش
( زمان الناس هداوة بال
و انت زمانك الترحال
وليلهم عمرو ما سآل
و ليلك لي صباحو سؤال
قسمتك يا رقيق الحال
مكتوب ليك تعيش رحال ) ..
وتعرف قيمة الأوطان وهو من الوطنية بحيث لا يُزايد عليه أحد ..
( إنت عندي كبير
وحبي ليك كتير
القومة ليك ياوطني ) ..
و تهُزُك الرجولة وبذل المهج ، حتى تخالك ( متحزماً ) ، و ممتشقاً صارماً مسلولا تبحث عن الموت
( ما دايرا لك الميتة أم رماداً شح
دايراك يوم لقا بدميك تتوشح
الميت مسولب والعجاج يكتح
أحي علي سيفو البسوي التح ) ..
و هكذا تجد أن أغنيات ( كابلي ) ،
تعكس الحياة ، بكل مباهجها ومخاوفها وأشواقها وتجلياتها وفنونها ..
و تتسع اختياراته لتعبر عنك
و تعبر عنها
و تعبر عني أنا
فرادى أو مجتمعين ..
فلكل حالة من أحوال الأنفس وأطوارها ما يستجيب لها ويدغدغها من أغنياته ..
ذلك أنه مُرهف ..
و رهيف الإحساس يعني رقيقه ودقيقه
وهذا الرهف الذي جُبل عليه ( كابلي ) جعله يجيد التقاط الأجمل والأحسن والأروع ..
وإذا ماقُدِّر لك أن تجلس إليه أوتستمع فإن أول ما يطالعك منه رهافة تتمثل في حسن الانتقاء ..
تجد ذلك في هندامه ، وفي كلامه ، وفي ما يبديه نحوك من مشاعر ، وبما أحاط به نفسه من هالة وبهاء ..
فتعرف سبب كل هذا الجمال الذي حازه و انطوى عليه ، فجرى على لسانه ..
( كل الجمال ياغالي
في لحظة مودة عابرة
نظرة عابرة لبسمتك
والدنيا تسهر شوق
اتْفَجَر محنه واحِس بجنه
لما العين تقابلك
صدفه يرتاح خيال الكون
يجود كل الوجود
يصبح عهود ) ..
إن صوت ( كابلي ) وهو ينساب إليك أشبه بشلالٍ رويّ ..
و أنا ليس بمقدوري وصف تطريبه وما يودعه النفوس من سحر ..
ولكن ..
تخيل أنك جالس على شط البحر ، وأنت ترقب حركة الأمواج وهي تصطفق ،
و كيف أن الموجة تشرئب ، ثم تقبل عليك ، وهي تعلو وتهبط وتتراقص ، في انسياب موزون ، إلى أن تصل إلى منتهاها عندك بسلاسة ، لتعقبها أخرى بالايقاع ذاته و الاتساق نفسه ..
أو ليس هذا ما يتراءى لك وأنت
تستمع إليه في ( شذا زهر ) و أخواتها !!
( شذا زهرٌ ولا زهر فأين الظل والنهر
ربيع رياضنا ولى أمن أعطافك النشر
وهذا النَوْرُ يبسم لي عن الدنيا و يَفْتَرُ
وأنظر لا أرى بدراً أأنت الليلة البدر
وبي سُكر تملكني وأعجب كيف بي سكر
رددت الخمر عن شفتي لعل جمالك الخمر
نعم أنت الرحيق لنا وأنت النور والعطر
وأنت السحرُ مقتدراً وهل غير الهوى سحر
خذوا الدنيا بأجمعها حبيب واحد ذخر
إذا ضاءت مطالعه فكل سمائنا بدر
خذوا دنياكم هذي فدنياواتنا كُثْرُ) ..
إن تتبع مسيرة ( كابلي ) الغنائية ، لا يطالها إلا أولو الطَول ممن تبحروا في هذا الفن ، وغاصوا في تجربة هذا ( البحر ) بعيد الأعماق مترامي الأطراف ..
وما أنا فيما ذهبت إليه ، إلا مُحبٌ اجْتَهَدَ في أن يَرشُفَ بعض الرحيق من أزاهيره الفوَّاحة ، مستجيباً لنداء الروح وأشواق الوجدان ..
ولم يستغرقني البحث و الوصف والتقصي و التفسير ، و لم أشأ أن أتحدث عن مناقبه و حسن شمائله وهي كثيرة ، من رزانةٍ و لُطْفٍ و حِنِيَّة و وفاء ، بل أسلمتُ قِيادي لكلمات أغنياته ، التي تصادف هوىً في نفسي ، فكانت هذه اللوحة ، غير المكتملة ، و هو بعض ما قدرت عليه ، و أسعفتني به حصيلتي المتواضعة ..
و إن أنسى ما أنسى ، أنني عندما غادرت تلفزيون السودان في العام ٢٠٠٢ كان حفيَّا بي ، إذ أقام لي مأدبة عشاء بنُزُلِهِ العامر ، دعا لها لفيفاً من الأحباب والأصدقاء والمقربين ، غمرني خلالها بأُنسِهِ وشملني بوُده ، وأفاض علي من صادق مشاعره ..
و تبقى الكتابة عن ( كابلي ) لكل من رامها ..
شاقة كتسلق الجبال الشاهقة
و مخيفة كملاعبة الأسود الجامحة
و مرهقة كمغازلة حبيبٍ صعب المِراس
و لكنها ..
ممتعة كالسباحة مع التيار
و شهية كقطف والتهام الثمار
و شجيِّة كمداعبة الأوتار ..
و يا دكتور ( عبدالكريم عبدالعزيز محمد الكابلي ) ..
إن لك في قلوبنا منازل
فلك ومعك نغني ..
حبك للناس ..
( حبك للناس خلاني أحبك تاني
فيك الاحساس نساني أعيش أحزاني
ما إنت نغم رنان في خيالي
ما إنت عشم فنان زي حالي
عارفك ساحر أزمان قُبَّالي
تسحر أزمان جاياك وليالي
كيف ما أريدك لو كان أحوالي
بيك تتباهى وتزدان وتلالي
ياروح سر الألوان ياغالي
يا صاحب عظمة وسلطان ومعالي ) ..
و معزتي إلى أستاذي ( عمر الجزلي ) ،
و قد ظل يُحبب إلينا غناء ( كابلي ) ،
و يُدنينا من حوضه ..
و السلام
أم درمان
٢٥ يونيو ٢٠٢١ …
يزيد بن معاوية وليس زياد ابن ابيه