مكي المغربي
ما أعجبني في الحديث المباشر الشجاع الذي أدلى به الفريق ياسر العطا عضو مجلس السيادة الانتقالي ليس الهجوم على حكومة الإمارات العربية المتحدة فهذا أمر قد وضحت موقفي فيه سابقا، وهو ضرورة تحويل المواجهة (المفروضة على السودان) مع الإمارات إلى موقف قانوني بدون الانشغال بحرب ديبلوماسية إعلامية، وتحدثت عن مقترح بسيط وهو (شكوى إقليمية) واحتفظت ببقية المقترحات حتى يتضح لي موقف الحكومة السودانية وجديتها في الموضوع.
بفضل حديث ياسر العطا عن الإمارات، اقترب موقف الجيش من المواطنين، لكنه لم يحقق المطابقة الكاملة (وهذا أفضل!) لأن الموقف الشعبي متوتر وساخن للغاية، ويستحسن التعبير عنه -عاجلا- بما ذكرت أعلاه وليس بالتصعيد الكلامي الذي سيؤدي إلى أفعال يصعب السيطرة عليها.
الذي أعجبني حقيقة في حديث العطا هو تعبيره المحسوب المعتدل حول الموقف الأمريكي، إذ بالرغم من أن الموقف الأمريكي فيه أخطاء لكن يستحسن التجاوز عنها والتركيز على دولة الإمارات، وعلى القيادات المشاغبة في دول الجوار الإفريقي، وذلك لسببين:
أولا: السودان هو من تسبب في الموقف الأمريكي الذي تماهى مع “قحت ومليشيا الدعم السريع والإمارات” قبل الحرب ونوعا ما بعدها، فالسودان هو الذي منح الإمارات هذا المساحة في التحرك في الداخل السوداني والسيطرة على القرارات الخارجية، وهي دولة تعتبر حليفة وصديقة لأمريكا وربما وكيلة لها في بعض القضايا، وعندما تمنح حليفا لأمريكا مساحة كبيرة ستكون واشنطن مجبرة على التنسيق معه أكثر من العمل بطريقة مباشرة مع السودان. وعليه، السودان هو الذي دفع بأمريكا تجاه الموقف الإماراتي الذي تسبب فى هذه الحرب الكارثية.
وللأمانة هذا الخطأ لم يبتدئه الفريق البرهان بل هو موروث من النظام السابق وتفاقم مع عهد قحت الإنتهازية والمليشيا الإجرامية، وزاد بتساهل البرهان في بداية الأمر، ثم انتبهت له القيادة السودانية وظهر هذا جليا في رفض تدشين التطبيع مع إسرائيل في الإمارات، حيث قرر السودان، إما أن تستمر الجهود (أمريكية – سودانية – إسرائيلية)، ويتم التدشين في واشنطون وليس أبوظبي، وتصب في مصلحة السودان مباشرة أو تتوقف إلى حين التصحيح، وهنا تدارك البرهان الخطأ، ولكن للأسف كان هذا الانتباه في مساحة الجيش فقط، فقد (وقعت الفأس في الرأس) كما يقول المثل السوداني وشرعت مليشيا الدعم السريع في التخطيط مع الإمارات وإسرائيل وباتت حسابات واشنطون أقرب إلى المخطط، أو متأرجحة بين مصر والإمارات، وأمريكا لم تكن راغبة في مليشيا الدعم السريع إطلاقا ولكن عدم تجويد السودان لملف علاقاته الخارجية وبالذات فيما يخص الإمارات هو السبب.
ثانيا: مر السودان بمحطات توتر كثيرة مع أمريكا، ولكن منذ العام 2014 وحتى الآن لا يوجد توتر بل تحسن مع تذبذب، والمحطات السودانية الامريكية هي (بداية المفاوضات، رفع العقوبات الاقتصادية، تأكيد رفع العقوبات، الإزالة من قائمة الإرهاب، ترفيع التمثيل الدبلوماسي)، وهذا تحسن بات ملازما للنظام السابق ثم الفترة الانتقالية الأولى ثم الثانية، وهذا يعني أن التحول الأمريكي جاد وعابر للأنظمة وغير متوقف. ولذلك، منهج العطا سليم، يستحسن التركيز على ضرر الإمارات والمشاغبين في الإقليم وتأمين الملف الأمريكي بعيدا عنهم، وعن غيرهم.
مساحة السودان تعادل مساحة ولايات الغرب الأوسط الأمريكي “ميدويست” الأثني عشر مع إضافة بنسلفانيا وفيرجينيا. تعداد سكان السودان يعادل 14% من أمريكا وهو تقريبا تعداد الأمريكان السود ويضاف إليهم عدد المهاجرين الجدد من أصول أفريقية. والسودان دولة زراعية مثل إقليم ميدويست، لذلك كنت دائما أقول لأصدقائي الأمريكان لتقريب الصورة عندما يسئلوني عن السودان، تخيلوا كل الأمريكان السود في أرض تعادل إقليم الغرب الأوسط ومعها ذات الميزات الزراعية، ويضاف إليها الذهب والمعادن والبترول، هذا هو السودان.
السودان دولة أفريقية مهمة وغنية بالموارد، ويسهل تقديمه بوصفه دولة أفريقية أكثر من عربية، لأن الانتباه الأمريكي لتغيير السياسة تجاه أفريقيا قادم لا محالة، والأفضل للسودان أن يبتعد من صراعات الشرق الأوسط، وأن يبقى موقفه من إسرائيل كما هو الآن مزيج بين المبادىء الانسانية والمصالح الوطنية، وذلك حتى يتفرغ السودان للانفتاح على أفريقيا التي تدور فيها حاليا حرب ضروس بين الشرق ممثلا في الصين وروسيا، والغرب ممثلا في أوربا وأمريكا.
بعد تجربة التعامل مع الإمارات في العلاقات الأمريكية السودانية، أعتقد أن المبدأ المؤكد في السودان حاليا هو إبعاد أي طرف ثالث يرغب في الوصاية على العلاقات الخارجية للسودان، ويشمل هذا الملف الأمريكي، وهو تحول نهائي وحاسم، وكل من يقاومه سيكون قد تسبب في ردة فعل عنيفة تعتبر معها تصريحات العطا مجرد مزاح.
آخذين في الاعتبار أن تصريحات العطا يستحسن أن تتحول إلى خطوات قانونية عقلانية يتخذها السودان وألا تتحول إلى خط إعلامي يشغل السودان عن تحديات بناء السلام وإعادة التعمير بعد توقف الحرب.