الرواية الاولى : بحث خاص *
تعتبر الصواريخ الباليستية والفرط صوتية من أبرز التقنيات العسكرية الحديثة التي تشغل حيزاً كبيراً في الجدل الاستراتيجي العالمي. تتميز كلتا الفئتين بقدرات تدميرية هائلة، ولكنها تختلفان بشكل جوهري في طبيعة مسارهما وسرعتهما وقدرتهما على المناورة، مما يمنح كل منهما مزايا وعيوب خاصة في ساحة المعركة الحديثة.

أولاً: الصواريخ الباليستية (Ballistic Missiles)
- 1- التعريف والمفهوم:
الصاروخ الباليستي هو صاروخ يتبع مساراً منحنياً، يُعرف بالمسار الباليستي، وهو مسار يتأثر بشكل أساسي بقوة الجاذبية الأرضية واحتكاك الهواء. يشبه إطلاق الصاروخ الباليستي رمي الرمح، حيث يتم دفعه بقوة هائلة في البداية ليرتفع عالياً، ثم يعود للانحدار تدريجياً نحو هدفه بفعل الجاذبية، فيكون مساره على شكل قوس أو قطع مكافئ. - آلية العمل والمسار:
يمر الصاروخ الباليستي بثلاث مراحل رئيسية:
- • مرحلة الدفع (Boost Phase): تبدأ هذه المرحلة لحظة الإطلاق وتشغيل المحركات (التي تعمل بالوقود السائل أو الصلب). يكتسب الصاروخ خلالها السرعة والطاقة الحركية اللازمة للوصول إلى هدفه. تكون هذه المرحلة قصيرة نسبياً.
- • مرحلة الطيران الباليستي (Midcourse Phase): بعد انتهاء مرحلة الدفع وانفصال المحركات، يدخل الصاروخ الفضاء الخارجي أو طبقات الغلاف الجوي العليا، حيث لا يوجد احتكاك هواء كبير. في هذه المرحلة، يعتمد الصاروخ بالكامل على القصور الذاتي وقوة الجاذبية. تكون هذه المرحلة هي الأطول في رحلة الصاروخ، خاصة بالنسبة للصواريخ العابرة للقارات، ويكون مساره محدداً بالكامل من لحظة انتهاء مرحلة الدفع.
- مرحلة الدخول في الغلاف الجوي (Terminal Phase): يعود الصاروخ إلى الغلاف الجوي للأرض، حيث يبدأ الاحتكاك بالهواء في إبطاء سرعته. يتميز الصاروخ في هذه المرحلة بقابليته للتأثر بالرياح والاضطرابات الجوية، كما تتولد كمية كبيرة من الحرارة بسبب الاحتكاك.

- 1- السرعة:
يمكن للصواريخ الباليستية أن تصل إلى سرعات هائلة تتجاوز سرعة الصوت بكثير، قد تصل إلى 15 أو حتى 20 ضعف سرعة الصوت (ماخ 15-20) عندما تكون خارج الغلاف الجوي، حيث لا توجد مقاومة كبيرة للهواء. - 2- القدرة على المناورة:
تعتبر قدرة الصواريخ الباليستية على المناورة محدودة للغاية بعد انتهاء مرحلة الدفع ودخولها المسار الباليستي. بمجرد إطلاقها، يكون مسارها محدداً مسبقاً، مما يجعلها أسهل نسبياً في التتبع والاعتراض من قبل أنظمة الدفاع الصاروخي المتقدمة، على الرغم من سرعتها العالية. - الأنواع والمدى:
تصنف الصواريخ الباليستية عادة حسب مداها إلى:
- • صواريخ باليستية قصيرة المدى (SRBM): مداها أقل من 1000 كيلومتر.
- • صواريخ باليستية متوسطة المدى (MRBM): مداها يتراوح بين 1000 و 3000 كيلومتر.
- • صواريخ باليستية متوسطة المدى عابرة للقارات (IRBM): مداها يتراوح بين 3000 و 5500 كيلومتر.
- • صواريخ باليستية عابرة للقارات (ICBM): مداها يفوق 5500 كيلومتر، وقادرة على عبور القارات وحمل رؤوس نووية.

- 1- الاستخدامات والحمولات:
تُستخدم الصواريخ الباليستية عادة لحمل رؤوس حربية تقليدية أو كيميائية أو بيولوجية أو نووية، وهي أسلحة استراتيجية تهدف إلى ضرب أهداف بعيدة وعميقة داخل أراضي العدو. - 2- التاريخ:
يعود تاريخ الصواريخ الباليستية الحديثة إلى الحرب العالمية الثانية، حيث ابتكر المهندس الألماني فيرنر فون براون صاروخ “في-2” (V-2)، الذي يُعد أول صاروخ باليستي في التاريخ، واستُخدم لقصف لندن عام 1944. تطورت هذه التكنولوجيا بشكل كبير خلال الحرب الباردة، حيث تسابقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في تطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات لحمل الرؤوس النووية. - 3- أمثلة:
- • V-2 (ألمانيا): أول صاروخ باليستي حديث.
- • Minuteman (الولايات المتحدة): صاروخ باليستي عابر للقارات.
- • R-36 / SS-18 Satan (الاتحاد السوفييتي/روسيا): أحد أثقل وأقوى الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
- شهاب-3 (إيران): صاروخ باليستي متوسط المدى.
ثانياً: الصواريخ الفرط صوتية (Hypersonic Missiles)

- 1- التعريف والمفهوم:
الأسلحة الفرط صوتية هي أسلحة قادرة على الانطلاق بسرعات تتجاوز 5 أضعاف سرعة الصوت (ماخ 5). وما يميز هذه الأسلحة عن الصواريخ التقليدية ليس فقط سرعتها الهائلة، بل أيضاً قدرتها على المناورة على طول مسارها عبر تغيير اتجاهها لمسارات منخفضة قريبة من الأرض دون أن تفقد سرعتها. - 2- آلية العمل والتكنولوجيا:
تعتمد الصواريخ الفرط صوتية على تقنيات متطورة جداً لتمكينها من تحقيق السرعات العالية والمناورة، وتشمل:
- • مركبات الانزلاق الفرط صوتية (Hypersonic Glide Vehicles – HGVs): يتم إطلاقها بواسطة صاروخ باليستي، ولكن بعد انفصالها عن الصاروخ الحامل، تنزلق عبر الغلاف الجوي بسرعات عالية جداً (أكثر من ماخ 5) مع قدرة فائقة على المناورة لتغيير المسار وتفادي أنظمة الدفاع.
- صواريخ كروز الفرط صوتية (Hypersonic Cruise Missiles): تستخدم محركات متقدمة مثل المحركات النفاثة الفرط صوتية (Scramjet) التي تسمح لها بالحفاظ على سرعات عالية جداً داخل الغلاف الجوي الأرضي مع الحفاظ على القدرة على المناورة.

- 1- السرعة:
تتجاوز سرعة الصواريخ الفرط صوتية 5 أضعاف سرعة الصوت (ماخ 5)، ويمكن أن تصل إلى 20 أو 25 ماخ. هذه السرعات تجعل من الصعب جداً على أنظمة الدفاع الجوي الحالية اكتشافها وتتبعها واعتراضها. - 2- القدرة على المناورة:
تعد القدرة الفائقة على المناورة هي الميزة الأبرز للصواريخ الفرط صوتية. بخلاف الصواريخ الباليستية التي تتبع مساراً محدداً، يمكن للصواريخ الفرط صوتية تغيير مسارها واتجاهها بشكل مستمر خلال رحلتها، والتحليق على ارتفاعات منخفضة نسبياً. هذا يجعل التنبؤ بمسارها واعتراضها تحدياً كبيراً لأي نظام دفاع صاروخي. - 3- الأهمية الاستراتيجية:
توفر الصواريخ الفرط صوتية ميزة استراتيجية حاسمة لمن يمتلكها،
حيث تمنحه القدرة على:
- • اختراق الدفاعات الجوية: بسبب سرعتها ومناوراتها، يصعب اعتراضها.
- • تقليل وقت رد الفعل: تصل إلى أهدافها بسرعة فائقة، مما يقلل من وقت رد الفعل لدى الخصم.
- تغيير موازين القوى: تُعتبر عاملاً مغيراً لقواعد اللعبة في الاستراتيجية العسكرية الحديثة.

- 1- التاريخ والتطوير:
بدأ تطوير الأسلحة الفرط صوتية في وقت مبكر من القرن العشرين، ولكن التقدم الكبير في هذا المجال تسارع في السنوات الأخيرة. تتنافس العديد من القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، بشدة في تطوير ونشر هذه الأسلحة. وقد استخدمت روسيا صواريخها الفرط صوتية “كينجال” في حربها ضد أوكرانيا، مما أظهر فعاليتها. - 2- أمثلة:
- • Kinzhal (روسيا): صاروخ باليستي يُطلق من الجو، قادر على الوصول إلى سرعات فرط صوتية والتحليق بمناورات.
- Avangard (روسيا): مركبة انزلاقية فرط صوتية تُطلق بواسطة صاروخ باليستي عابر للقارات.
- DF-ZF (الصين): مركبة انزلاقية فرط صوتية.
- LRHW “Dark Eagle” (الولايات المتحدة): صاروخ فرط صوتي يتم تطويره.
ثالثاً: الفروقات الرئيسية بين الصواريخ الباليستية والفرط صوتية
الميزة | الصواريخ الباليستية | الصواريخ الفرط صوتية |
---|---|---|
المسار | قوس باليستي محدد (شبه مداري) يتأثر بالجاذبية. | مسار مناور ومتغير داخل الغلاف الجوي أو على ارتفاعات منخفضة. |
السرعة | عالية جداً (15-20 ماخ) بشكل رئيسي خارج الغلاف الجوي. | عالية جداً (أكثر من 5 ماخ) مع القدرة على الحفاظ عليها أثناء المناورة. |
المناورة | محدودة جداً بعد مرحلة الدفع. | قدرة فائقة على المناورة وتغيير المسار. |
الارتفاع | تصل إلى ارتفاعات عالية جداً (خارج الغلاف الجوي). | تحلق على ارتفاعات منخفضة نسبياً داخل الغلاف الجوي. |
الاعتراض | يمكن تتبعها واعتراضها بواسطة أنظمة دفاع متطورة (أكثر سهولة نسبياً). | يصعب جداً اكتشافها وتتبعها واعتراضها بسبب السرعة والمناورة. |
التقنية الأساسية | تعتمد على قوة دفع أولية ثم الجاذبية. | تعتمد على محركات متقدمة (سكرامجيت) أو مركبات انزلاقية. |
الخلاصة
تُشكل الصواريخ الباليستية والفرط صوتية قفزة نوعية في تكنولوجيا الأسلحة، كلتاهما تمثلان تهديداً استراتيجياً كبيراً لقدرتهما على ضرب أهداف بعيدة بدقة وسرعة. ومع ذلك، فإن الصواريخ الفرط صوتية تقدم تحدياً جديداً لأنظمة الدفاع الجوي بسبب قدرتها على المناورة الفائقة وسرعتها التي تفوق الصواريخ الباليستية في قدرتها على التوغل داخل الغلاف الجوي مع الحفاظ على التحكم والمناورة، مما يجعلها “شبه مستحيلة الاعتراض” بالتقنيات الحالية. هذا التطور يدفع الدول إلى تسريع وتيرة أبحاثها وتطوير أنظمة دفاعية جديدة لمواجهة هذه التهديدات المتزايدة.
*البحث : بإشراف محرر شئون الدفاع والتسليح بموقع ” الرواية الاولى ”