الرواية الأولى

نروي لتعرف

الرأي

تحركات دولية في ملف السودان .. هل إقتربت نهاية الحرب

د. ياسر يوسف إبراهيم


لم تكد التسريبات الإعلامية عن لقاء جمع رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان مع مستشار الرئيس ترامب لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا مسعد بولس في العاصمة السويسرية جنيف تنتشر في وسائل التواصل الإجتماعي حتي تأكد الأمر من خلال مصادر متعددة ، فصار خبرا بارزا في وسائل الإعلام المحلية والعالمية ، وعلي الرغم من أنه لم يخرج أي مسؤول من الطرفين حتي كتابة هذا المقال بعد مرور أكثر من خمسة أيام ليؤكد الأمر بشكل رسمي إلا أن ما تسرب للإعلام من عناوين يؤكد أن اللقاء إنعقد علي خلفية تلقي البرهان لمقترح أمريكي لوقف الحرب في السودان وفق مقترح متعدد المراحل والخطوات ، تبدأ أولي عتباته بوقف شامل لإطلاق النار ، ثم السماح بدخول المساعدات الإنسانية للمناطق المحتاجة وفي مقدمتها عاصمة ولاية شمال دارفور مدينة الفاشر المحاصرة من قبل مليشيا الدعم السريع قبل أكثر من عام ، وبعد ذلك يتم البحث عن الخيارات السياسية لتسوية الأزمة بما في ذلك إستعادة المسار المدني للإنتقال الديمقراطي ، والنظر في كيفية تحقيق الحد الأدني من التوافق بين التيارات المختلفة في توجهاتها السياسية ومواقفها من الحرب السودانية ، وفي ظل التعتيم الإعلامي علي تفاصيل النقاشات التي تمت في اللقاء كان بارزا تداول موقف الفريق البرهان بعدم إمكانية قبول أي مستقبل لمليشيا الدعم السريع في العملية السياسية ، ويمكن فهم ذلك الموقف من خلال التأكيد علي أن الدعم السريع هي قوات مساندة قامت بالتمرد علي الجيش ، وبالتالي فإنه لا يحق لها التفاوض حول أي أجندة سياسية ، وإنما يجب أن يقتصر التحدث معها حول قضايا عسكرية تتصل بالدمج والتسريح ومحاسبة قيادتها علي التمرد والجرائم المرتكبة بحق المدنيين السودانيين ، وهوالموقف الذي ظلت تكرره القيادة السودانية منذ إعلان جدة الشهير الذي تم التوقيع عليه بعد شهر واحد من إندلاع الحرب قبل أكثر من سنتين , ولكن وبما أن مليشيا الدعم السريع لم تلتزم بأي من بنوده مدفوعة وقتها بوهم تفوقها الميداني , فإن القيادة السودانية تريد التذكير بمحتوي ذلك الإعلان الذي سبق وأن وقعت عليه المليشيا بوساطة من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية ..

مواقف دولية جديدة من الأزمة ..

جاء إجتماع جنيف بعد أسبوعين علي تأجيل إجتماع الرباعية الدولية التي تضم الولايات المتحدة ، المملكة العربية السعودية، مصر والإمارات العربية المتحدة ، والذي كان منتظرا أن ينعقد في العاصمة الأمريكية واشنطن دون مشاركة الأطراف السودانية ، للبحث في مقترحات تؤدي لوقف الحرب ، وراج وقتها أن تأجيل الإجتماع جاء علي خلفية خلافات في وجهات النظر بين وزير الخارجية الأمريكي ماكو روبيو الذي يتبني مقترحا بتوسيع الرباعية الدولية لتشمل الإتحاد الأوروبي ودولا مثل قطر ، وذلك من أجل بناء مقترحات دولية توافقية لوقف الحرب ، بينما يصر مستشار ترامب مسعد بولس علي أن يقتصر الأمر في هذه المرحلة علي دول الرباعية ، خاصة وأن هناك تباينا في الرؤي بين بعض أعضائها في النظر لمكونات الحرب في السودان ، ولم توضح الخارجية الأمريكية الأسباب التي دعتها لتأجيل ذلك الإجتماع الذي كان الإعداد له علي مستوي عال من التنسيق والتشاور بين الدول المعنية ، ولكن السفير المصري في واشنطن قال في تصريح مقتضب ( إن الإجتماع سيلتئم في سبتمبر المقبل ) ..
وقد سبق هذا التطور موقف جديد للإتحاد الإفريقي الذي جمد عضوية السودان منذ أكتوبر من العام 2021 بعد قرارات قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بحل حكومة الدكتور حمدوك ، ففي مايو الماضي رحب الإتحاد الإفريقي رسميا بتعيين الدكتور كامل إدريس رئيسا للوزراء في السودان معتبرا ذلك ( تقدما مهما نحو تحقيق الحوكمة الشاملة وإستعادة النظام الدستوري والحكم الديمقراطي في البلاد ) ، وقال رئيس مفوضية الإتحاد الإفريقي محمود علي يوسف إن الإتحاد الإفريقي ملتزم بتقديم الدعم اللازم بالتنسيق مع الشركاء الإقليميين والدوليين للحفاظ علي وحدة السودان وإستقراره ، وجاء الموقف الأقوي من ذلك في بيان مجلس السلم والأمن الإفريقي الصادر في يوليو الماضي , حيث أدان بشكل واضح مساعي مليشيا الدعم السريع بتكوين حكومة موازية في السودان ، ودعا المجتمع الدولي ( إلي عدم الإعتراف بالحكومة الموازية المزعومة أو تقديم أي دعم لها ) , وهو الموقف الذي تبنته المملكة العربية السعودية عبر بيان خارجيتها الذي قال ( تعرب وزارة الخارجية عن رفض المملكة العربية السعودية لأي خطوات أو إجراءات غير شرعية تتم خارج إطار عمل المؤسسات الرسمية لجمهورية السودان قد تمس وحدته ولا تعبر عن إرادة شعبه ) . أما جمهورية مصر العربية فقد كان رد فعلها مؤكدا لمواقف مصر الثابتة في دعم الدولة السودانية , حيث عبرت بوضوح في بيان خارجيتها بأن ( تشكيل حكومة موازية يعقد المشهد في السودان ) , وفي الثاني عشر من أغسطس الجاري قال أعضاء مجلس الأمن الدولي إنهم (يرفضون الإعلان عن إنشاء سلطة حكم موازية في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع ) ..

توقعات المستقبل ..

شكلت تلك المواقف الإقليمية والدولية الداعمة للحكومة السودانية والرافضة لتأسيس أي سلطة موازية ضربة قوية لمشروع مليشيا الدعم السريع وداعميها الإقليميين ، إذ كانت المليشيا تأمل في أن تنجح في إسقاط مدينة الفاشر عاصمة دارفور لتكون حكومة أمر واقع في الإقليم ، ولكن صمود أهل الفاشر والتضحيات النادرة التي ظل يقدمها أبطال القوات المسلحة والقوات المشتركة التي تقاتل تحت راية الجيش أفشلت ذلك المخطط ، ففي الأسبوع الماضي حشدت المليشيا الجنود والعتاد الذي كان قوامه 543 عربة مسلحة لتنفذ هجومها رقم ( 227 ) ضد المدينة المحاصرة منذ أكثر من 400 يوم ، ولكن وبفضل بسالة القوات المسلحة والقوات المشتركة فشل ذلك الهجوم الأكبر من نوعه منذ شهور ، وبعد هذا الفشل والمواقف الدولية المنددة بإنتهاكاتها المتواصلة ، والتي كان آخرها تصريح مستشار ترامب مسعد بولس والذي جاء بعد لقائه مع البرهان ، حيث أعرب عن صدمته من الوضع المروع في الفاشروما تتسبب فيه المليشيا من مآسي جراء حصارها للمدينة ، بعد كل هذه المواقف فإنه بات واضحا أن مشروع المليشيا السياسي ليس له مستقبل ، ولكن يبقي التساؤل المهم كيف يمكن تصور وقف الحرب علي ضوء التحركات الأمريكية الأخيرة ..
علي المستوي العسكري تثور أسئلة كثيرة حول وقف إطلاق النار المقترح بغرض التفاوض حول مستقبل العملية السياسية في البلاد ، فبغض النظر عن موقف الجيش والقوي الوطنية التي تصطف خلفه من رفض قاطع لأي تفاوض مع مليشيا الدعم السريع حول أجندة سياسية ، هناك شكوك حول قدرة المليشيا ورغبتها في الدخول في عملية جادة لوقف إطلاق النار، إذ ستعمل علي إستثمار أي هدنة لإعادة بناء منظومتها القيادية وترتيب قواتها ، خاصة في ظل تواصل تدفق الدعم العسكري الكبير، كما حدث في تجارب سابقة معها إبان معارك تحرير الخرطوم ، ومن ناحية أخري لا يتصور قبول الجيش شرعنة بقاء المليشيا في المناطق التي تحتلها حاليا في كردفان وإقليم دارفور ، لأن ذلك يعني عمليا الإعتراف بالأمرالواقع الذي تريد فرضه المليشيا ، وستعمل علي ترسيخ سلطتها هناك بالحديد والنار من تغيير للواقع الديمغرافي عبر التهجير وإستقدام قادمين جدد من خارج البلاد من الحاضنة القبلية التي تدعم التمرد وتقاتل تحت رايته ، كما أن بقاء المليشيا في المناطق التي تحتلها يعني إستمرار معاناة المدنيين الذين هجرتهم المليشيا من بيوتهم ، والأمر كذلك فإنه يمكن فهم تصريح البرهان بعد لقائه مستشار ترامب بأن الخيار المتاح للمليشيا هو الإذعان لسلطة الدولة والكف عن الإنتهاكات التي تقوم بها حاليا ، حيث أن ذلك لن يحقق لها أيا من طموحاتها المتهورة ، ومن ناحية أخري فإن البرهان أراد التأكيد علي أن الحكومة التي حققت إنتصارات عسكرية مهمة رغم الدعم الإقليمي الثقيل للمليشيا ، وأتبعتها بخطوات سياسية بدأت بتكوين الحكومة المدنية والشروع في تبني برامج لعودة النازحين واللاجئين إلي بيوتهم في العاصمة الخرطوم ، وإنطلاق برامج الإعمار في الولايات المحررة ، لن تسمح لأي قوي سياسية أو مسلحة أن تفرض علي السودانيين حلولا لا تلبي طموحاتهم وتعبر عن أشواقهم ..
وعلي كل فإن سعي الإدارة الأميركية للقاء المباشر مع البرهان يعني أنها تتفهم المواقف السودانية وتريد أن تستوعبها ضمن المقترحات المستقبلية لضمان نجاح أي مسعي يعمل علي بناء مشروع متوافق عليه لإنهاء الحرب في السودان ..

اترك رد

error: Content is protected !!