بقلم السفير عبد المحمود عبد الحليم
..كانت الاضواء تخرج باهتة من نوافذ المنازل البعيدةعلى امتداد الطريق البرى من دوالا الى ياوندى وكأن نعاسا قد ر اودها … استسلم الركاب لوعثاء الطريق ومشقته ، ورويدا تنخفض أصوات احاديثهم وضحكاتهم ويدب فيها الوهن..ايماض بروق يتسلل ضوئها للحافلة فينعكس على الوجوه المتعبة داخلها وصوت رعد ، فقد تنهمر الأمطار دون استئذان….وحدها “جيرمين ” ظلت صامتة منذ ان بدأت الرحلةوقد بدأ عليها قلق وانشغال بينما استمر تحديقها عبر النافذة وكأنها تعلم أنها المرة الأخيرة التي تسلك ذلك الطريق ولن تعود اليه…فى اليوم الثالث بعد وصولها لياوندى كانت “جيرمين” وابنيها في صالة المغادرة بالمطار انتظارا لرحلة من نوع اخر الى باريس بعد أن رتبت امر هجرة الى هناك…فى روايته ” مدينة قاسية Cruel Çìtý ” يورد الأديب والروائى الكاميرونى مونقو بيتى Mongo Beti قصة الشاب باندا الذى يود تحقيق أمنية والدته بان يقترن بفتاة أحلامه في حياتها وقبل أن ترحل فيسافر لمدينة لبيع حصاد الموسم من ثمار الكاكاو لتوفير الموارد المالية اللازمة لزواجه الا ان الحظ يعانده فيفشل في مهمته….هل ستلقى “جيرمين” المغادرة الى فرنسا ذات المصير وهى المتطلعة الى حياة جديدة مع ابنيها خاصة بعد انفصالها عن زوجها واعتمادها على نفسها لتوفير أسباب الحياة للأسرة..تقلع الطائرة الى باريس ..بدأ صوت المحركات لجيرمين كتراتيل وداع لمدينة شرسة ، وكانت اهتزازات الطائرة مع الجيوب الهوائية تقطع حبل تفكيرها وتأملها لشكل ايام قادمات لم تستبين ملامحها بعد قبل ان تبتلعها بعد ساعات المدينة الكبيرة ايذانا ببدء حياة جديدة فيها…اغلب الناس الذين يمكنهم تغيير شكل حياتنا لم نقابلهم بعد…جيرمين تلتقى سويسريا بفرنسا يعجب بها ويتزوجها ثم ينتقل بها فى نهاية الأمر إلى سويسرا…يجد ابنها ” بيريل ” الفرصة لاشباع هوايته في كرة القدم ويلفت الانظار الى موهبته ويحصد لا ثمار الكاكاو التى خذلت “باندا ” فى ” مدينة قاسية” وانما اعجاب متابعين كثر منذ ان التحق بنادى نوردستيرن ثم نادى بازل الذى صقل مواهبه ولعب معه بعقد أحترافى ٩١ مبارة وسجل ٣١ هدفا ، وبعدها بعامين لعب مع شالكة وبروسيامونشنبلادباخ الالمانيين بين ٢٠١٩و٢٠٢٢ قبل الالتحاق حاليا بموناكو الفرنسى والذى يقدم معه مستويات جيدة..ظل بيريل امبولو ومنذ حصوله على الجنسية السويسرية عام ٢٠١٤ نجما لامعا لمنتخبها الذى أدى معه ٥٩ مباراة دولية بمافى ذلك كاس امم اوروبا ومونديال روسيا عام ٢٠١٨….يقول امبولو ان المفاضلة واختيار المنتخب السويسرى او منتخب بلاده الكاميرون للعب معه كانت امرا صعبا وقاسيا ، وكان من أفراد الأسرة من يؤيد هذا وذاك ايضا…قال انه عندما تم الاتصال به للعب مع منتخب الكاميرون استغرق الامر معه ستة أشهر قبل ان يقرر اللعب مع منتخب سويسرا ، ولابد أن ذلك قد أغضب الكثيرين… على أن الأمر المرعب حقا كان وجود الكاميرون وسويسرا معا فى المجموعة السابعة لمونديال قطر مع كل من البرازيل وصربيا ،بل احرازه هدف الفوز الوحيد لسويسرا فى مرمى الكاميرون مستفيدا من تمريرة شاكيرى العرضية ليودعها شباك الحارس اونانا…لكنه رفض الاحتفال بالهدف وشاهده الملايين حول العالم وفى استاد الجنوب بالوكرة حزينا رغم انه قال قبل المباراة ان كرة القدم هى رياضة المشاعر ، وأنه اذا احتفل فلن يكون ذلك ضد بلاده الام بل لأنه يريد الفوز…وكان قد صرح ايضا بان حب بلاده يجرى فى دمه وان اهله يعيشون هناك وانه قد درج كثيرا على السفر لياوندى ودوالا ويرغب فى رد الجميل لبنى وطنه من خلال منظمة أنشأها للأعمال الخيرية والاجتماعية…اوردت وكالات الأنباء صورا لحشد غاضب من الناس قالت انهم حاولوا اقتحام منزل بيريل امبولو فى ياوندى احتجاجا ورفضا لاحرازه هدف الفوز ضد منتخب بلاده..واضح ان هذا الجدل سوف يستمر بين قادح ومادح فبمثلما عولمت كرة القدم تنقلات اللاعبين عولمت ايضا بين المشاعر اذ يلعب اكثر من مائة من لاعبى كاس العالم بقطر لاندية وبلدان غير التى ولدوا فيها..فشاكيرى الذى هيأ الهدف لامبولو هربت أسرته من الصراعات فى اقليم كوسوفو وقدوس نجم منتخب ايران كان مسقط رأسه السويد وبالسنغال العديد من حملة الجنسية الفرنسية كالحارس ادوارمندى والمدافع عبدو كامارا وحارس الاكوادور ارجنتينى بينما يوجد المانى فى تشكيلة ويلز وامريكى مع اليابان وغيرهم وغيرهم..ويقول هؤلاء ان الجنسية الجديدة هى تحقيق التميز والنجومية وان ذلك يستوجب الاخلاص لألوان المنتخبات التى يلعبون بها.. أما الجانب الآخر فيقول بداهة ان لا شئ يعدل الوطن..وفى الوقت الذى يحيل الروائى الكاميرونى Mongo Beti للارث الاستعمارى والثقافة الرأسمالية اسباب خيبات الافارقة فان الأديب النيجيرى شنوا اشيبى ينصح بعدم إضفاء الرومانسية romantisicing على أوضاع ماقبل مرحلة استعمار افريقيا…بين انتحاب الاكوادوريين..ودموع سواريز.. واغماءات الكوريين..وبكاء نيمار وماسكب على الملاعب الخضراء من دماء ودموع كانت النسخة القطرية للمنافسة العالمية للاعبين والمتفرجين على السواء ساحة اخرى وموسما لفيضان المشاعر القومية ولحب الأوطان…