(1)
ثلاثون عاماً في المناصب والمواقع، كان بكرى ذاته..
لم ينبس بكلمة في غير موضعها..
لم يتصدر المشهد من أجل حظوة نفس او إبداء غرور أو بحثاً عن نجومية أو ظهور أمام الأضواء..
لم يوعد ويخلف..
لم يسمع له ضجيج في لحظة إنتصار أو جزع لحظة إنكسار..
ذلك رجل جعل للصمت ألف قول..
لم يحدثنا يوماً عن منطقة كرمة البلد و حفير مشو مسقط راسه، أو نشاهده في حشد عشائري أو مناطقي، فهو ابن السودان كل السودان بقبائله ومكوناته وسحناته ولهجاته وتطلعاتهم.. ذلك بكرى..
تكاد تخلو المنصات من لقاءاته التلفزيونية أو الصحفية.. ولكنه حين تحدث أبهر..
خرج الفريق أول بكرى حسن صالح في مؤتمر صحفي ١٣ مارس ٢٠١٧م بعد إعلان حكومته، ولم يقدم الأسماء فحسب، بل طرح رؤية رجل دولة..
والرجل المتباعد عن الإعلام، نادي كل صحفي بإسمه وداعبهم بأحب الأسماء لديهم.. فقد كان حاضراً.. وسيظل كذلك بإذن الله..
هكذا هو الفريق أول بكرى حسن صالح، رجل رسم للصمت ألف معنى..
(2)
في عام ١٩٩٩م ومع منازعات أطراف السلطة قبل المفاصلة، نشط عضو المجلس الوطني الأخ أحمد شيخ المدينة (رحمه الله) في جمع توقيعات أعضاء المجلس لإعتماد منصب مجلس وزراء يتراس السلطة التنفيذية، وظل الأمر محل خلاف، وحين أقر الحوار الوطني ذلك المبدأ ، لم يكن من الأمر بد..
وهكذا تم تكليف الفريق أول بكرى حسن صالح رئيساً للوزراء في ٢ مارس ٢٠١٧م، وهو بذلك رئيس الوزراء الثاني عشر في السودان ، بينما السيد الصادق المهدي الحادي عشر، فقد تم إعتماد منصب رئيس الوزراء بعد ٢٨ عاماً من عمر الإنقاذ.. ولذلك كانت المهمة محفوفة بالمحاذير ولكن بكرى مضى أكثر من ذلك..
أولا: شكل واحدة من أكثر الحكومات الوطنية في سعة المشاركة من كافة القوى السياسية والحركات والتيارات الإجتماعية والوطنية، فأستوعبت كافة أطياف الحراك السياسي بأكثر من ٣١ وزيراً و٤٠ وزير دولة.. كان نصيب الحزب الحاكم اقل من ٤٠٪..
وثانياً : كانت مشاركة القوى السياسية فعالة، وبقيادات الأحزاب، فقد شارك مبارك الفاضل وحاتم السر واحمد بلال عثمان ود. موسى كرامة وبابكر نهار وبشارة جمعة ود. حسن هلال ود. الصادق المهدى وبحر ابوقردة ومحمد أبوزيد وغيرهم من كل القوى السياسية والوطنية وتولوا وزارات مهمة..
ثالثاً : وحتى مشاركات وزراء المؤتمر الوطني ابتعدت القيادات ذات الوزن السياسي وبرز وزراء أقرب للتكنوقراط امثال بروف غندور ومهندس مكاوي وبروف سمية ابوكشوه ود. تهاني عطية..
ورابعاً : تم إعلان الوزارة من القصر الجمهوري وفي مؤتمر صحفي، بينما كانت الحكومات السابقة تجاز في المكتب القيادي للمؤتمر الوطني..
و خامساً: ظل حريصاً على إنفاذ توصيات ومخرجات الحوار الوطني واحدة تلو الأخرى وجعل لذلك أرقام ونسب وشارك بروفيسور هاشم على سالم دينمو مؤتمر الحوار الوطني وزيراً في تلك الحكومة..
تلك كانت شخصية الفريق أول بكرى حسن صالح، باحث عن الوفاق وقائد له.. رجل دولة يعمل في صمت وعزم.
(3)
كل حدث كبير يستدعي نقاشات كبيرة وإهتمام ومتابعة وبحث وتنقيب، وإن كان الحدث على مستوى ما جري في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م، فإن الأمر أكثر إثارة وأوسع مدى.. ومع ذلك لا يخلو الأمر من بعض لطائف ومن ذلك من هو عضو المجلس صاحب النظارة الداكنة؟ ضابط ، صامت وساكن….
ولاحقاً، تولي ذلك العضو من مجلس قيادة الثورة مهام كبيرة، مستشار أمني لرئيس الجمهورية
وتولى مهام رئيس مجلس الوزراء من مارس ٢٠١٧م – سبتمبر ٢٠١٨م
والنائب الاول لرئيس الجمهورية (ديسمبر ٢٠١٣ – فبراير ٢٠١٨م)
ووزير رئاسة الجمهورية من ( ٢٠٠٥م – ٢٠١٣م)
ووزير الدفاع الوطني
(يوليو ٢٠٠٠م – سبتمبر ٢٠٠٥م) ووزير الداخلية ١٩٩٥م – ١٩٩٨م)..
وخرج من هذه المناصب والمواقع مرفوع الهامة، ونظيف اليد.. وبذات البساطة وذات السمت وتلك القفشات..
.. ذلك العسكري القح والتنفيذي الأول.. بكرى حسن صالح..
و حين أستعصت المفاوضات بين الطرفين في مفاوضات السلام عام ٢٠٠٣م، وصل الفريق أول بكرى حسن صالح وزير الدفاع الوطني، وخلال أيام من التفاوض، تم إنجاز احد اهم الملفات (الترتيبات الأمنية)، لقد كانت قدرات بكرى التفاوضية حاسمة، بالإضافة لمعرفة بالقادة في الطرف الآخر،
ذلك هو بكرى حسن صالح…
(4)
(يااخوي انا ما بتاع سياسة، شوف شيخ علي ولا دكتور عوض)، تلك عباراته لي ذات مرة وبإبتسامة واسعة وقد استشرته في شأن عام.. وهو كذلك بعيد عن تقاطعات المواقف السياسية المنهكة، واختار ان يخدم وطنه وفق إختياره وتقديره..
ولكن حين أقتضي الأمر خطوة جرئية وموقف شجاع ، فعل ، فقد كان الضابط الوحيد الذي وقع على مذكرة العشرة.. ومهما كانت التقديرات والآراء حولها، فقد كان الفريق أول بكرى في غنى عن ذلك، ولكن من منطلق المسؤولية السياسية والجهر بالرأي والموقف الوطني اختار ذلك الموقف.. تلك صفات وشخصيات قيادات الدولة.. لا يترددون حين يستقر رأيهم وتكتمل قناعاتهم..
(5)
١٥ ضابطاً، هم أعضاء مجلس قيادة الثورة في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م، لم يكن الفريق بكرى أعلاهم رتبة، توفي منهم (بيويو كوان) و استشهد منهم (الزبير محمد صالح وإبراهيم شمس الدين) وذهب إثنين منهم مع إنفصال الجنوب (دومينيك كاسيانو و مارتن ملوال)، والبقية أغلبهم في السودان.. ولكن وحده الفريق أول بكرى من توجه له التهمة مع الرئيس البشير ومن تم إعتقاله وقد جاوز السبعين من عمره (مواليد ١٩٤٩م)، دون مراعاة لسنه أو لكسبه من أجل وطنه أو لرتبته العسكرية وروحه الوطنية الوثابة.. هكذا السياسة في السودان، وللأسف التحيزات وصلت ببؤسها للمؤسسة العسكرية ذات التقاليد الراسخة والأعراف السائدة.. ولذلك الفريق أول بكرى حبيس منذ ٢٠١٩م..
فى يوم الجمعة ١٥ يوليو ٢٠٢٢م وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على ما اسموه (مشروع إدانة الإنقلاب في السودان)، و مبعوث الأمم المتحدة ورئيس بعثتها فولكر بيرتس مازال يتحدث عن إنقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، فهل ننتظر غداً محاكمة الفريق أول عبدالفتاح البرهان والفريق اول محمد حمدان دقلو بالمحاولة الإنقلابية..
ناهيك عن ذلك فإن الحزب الشيوعي وبعض القوى السياسية تسمى ما حدث في ١١ أبريل ٢٠١٩م بإنقلاب اللجنة الأمنية.. إن بعض الأمور لا تستقيم في ميزان المنطق والعدل.. لقد انتهت ايام الأكاذيب والترهات عن المليارات والاموال والقصور، وتبين ان هؤلاء معادن وصناديد خدموا وطنهم بجد وكد.. فلا داعي لإستمرار حبسهم، فهم اهل سبق والأولى ان نكافئهم ونحتفي بهم..
إن ما يلاقيه الفريق أول بكرى وإخوانه، وأخص هنا العسكريين (يوسف عبدالفتاح ويونس محمود)، في ظني محاولة لإحتواء القوات المسلحة وللطعن في كبريائها وعزة مواقفها..
أطلقوا سراح الفريق أول بكرى حسن صالح وإخوانه..