د. أحمد عبدالباقي
يشهد سوق العمل تغيرات متسارعة وبالتزامن مع تطورات متلاحقة في بيئات الأعمال التجارية والصناعية والمؤسسات العامة المعاصرة، حيث باتت هذه التغيرات أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، هذا وتجدر الإشارة إلى أن المكونات الأساسية للكفاءات في المجتمع الوظيفي تتضمن توفر ثلاثة أركان رئيسية: (ا) المهارات الصلبة: المهارات التخصصية والتقنية اللازمة لتنفيذ الدور الوظيفي (الدرجات العلمية)، (2) المعرفة: فهي ترتبط بالمستوى الأكاديمي والخبرات العلمية بالتخصص و (3) المهارات الناعمة (المهارات الشخصية)، وفيما كانت عمليات التوظيف أو الترقية المهنية في السابق تهتم بالخبرات المهنية والتخصصية للأفراد ومعرفتهم، بدأ التوجه في البيئات المعاصرة ينصب أكثر فأكثر على ما بات يسمى بالـ “المهارات الناعمة” أو Soft Skills باعتبارها ميزة ذات قيمة مضافة ليس لمن يمتلكها من الأفراد فحسب، بل للمؤسسات أيضاً بعد أن ثبتت المساهمة الإيجابية للمهارات الناعمة في تجويد العمل وزيادة الإنتاجية وكفاءة الأداء وتحفيز الابتكار، لذا لم يعد معيار الشهادات العلمية وحده كافياً للتوظيف أو حتى الحصول على الترقية الوظيفية، بل أصبحت المهارات الناعمة تحتل حيزا كبيرا في مسألة التقييم عند التوظيف والترقية. كما دلت الدراسات والتجارب على أن المهارات الناعمة تؤثر بشكل مباشر في نجاح الفرد في عمله وحتى حياته الاجتماعية، ولأهميتها تتناول هذه المساهمة المهارات الناعمة ودورها في التوظيف والترقية المهنية. ما هي المهارات الناعمة:
مصطلح المهارات الناعمة -الذي اشتهر منذ التسعينات وخاصة في القرن الحادي والعشرين- يُقصد به تلك المهارات الأساسية التي ترتبط بمقدرات التواصل الإنسانية وإدارة العلاقات والتعامل مع الآخرين، يتسع نطاق المهارات الناعمة ليشمل طيفاً واسعاً من القدرات والميزات الشخصية، وتشمل على سبيل المثال: روح التعاون والعمل الجماعي ضمن فريق العمل، الإبداع مع التفكير، التفكير النقدي، القدرة على حل المشاكل والأزمات بكفاءة، التواصل الفعال، مهارات عرض الأفكار والإقناع، وروح المبادرة والقيادة التي تضمن نجاح الفرد في إدارة الموقف والتأثير في الآخر، المرونة في التعامل مع مستجدات ومتغيرات بيئة العمل، الطموح للتعلم المستمر، القدرة على العمل تحت الضغوط، الثقة بالذات، والتمتع بالذكاء العاطفي وهو قدرة الفرد على التعرف على عواطفه الشخصية، وفهمها بصورة سليمة، وإدراك مدى تأثيرها في الأشخاص من حوله، وإدارة مشاعرهم الخاصة، والتمتع بالذكاء الاجتماعي وهو فن التعامل مع مواقف الحياة الاجتماعية المختلفة، والقدرة على التفاهم مع أكبر قدر ممكن من الأشخاص، وامتلاك الطريقة المناسبة للتحليل الاجتماعي. اكتساب المهارات الناعمة:
رغم أن المهارات الناعمة معنوية بطبيعتها، ولا يمكن قياسها، وتختلف من شخص إلى آخر، إلا أنه يمكن تنميتها واكتسابها على الأقل من خلال طريقتين: (أ) الحصول على تدريب من جهات معتمدة كالجامعات والمؤسسات ومراكز التدريب وبناء القدرات ومنح شهادات اجتياز واعتماد و (ب) التعلم الذاتي، ويعني السعي المستمر لتطوير الذات باستمرار، لا سيما في المهارات المطلوبة للنجاح خاصة من خلال التدريب المستمر في أثناء العمل (On job Training). وطالما أن الأمر كذلك في اكتساب المهارات الناعمة، فإنه من الممكن العمل على تنميتها لدى الأفراد منذ الصغر بدءا بالبيت وانتقالا للمراحل التعليمية المختلفة لتنمو هذه المهارات، وتتطور مع الزمن وبالتالي يمكن التأسيس عليها وفقا لمستجدات سوق العمل مع الأخذ بالمعينات المُفضية للمواكبة في اكتساب أي مهارات جديدة حسب ما تقتضيه الحال. أهمية المهارات الناعمة:
هنالك توقعات بأن تختفي ملايين الوظائف مستقبلا نتيجة لانتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات وعوامل اقتصادية واجتماعية أخرى (في ظل مقدرة الروبوتات على تعلم الذكاء العاطفي واكتساب بعض المهارات الناعمة)، ولكن وخلافا للاعتقاد باختفاء الملايين من هذه الوظائف، فإن بعض الدراسات أشارت إلى أن الآلات لن تستطيع محاكاة مقدرات الإنسان الذهنية والانفعالات والعواطف الإنسانية؛ وبالتالي لا غنى عن توظيفه بشريطة الاستعداد الكافي في المنافسة التي ينال فيها أصحاب المهارات الناعمة التوظيف والترقية المهنية دون غيرهم، كما أنه يقع على عاتق المؤسسات التي ترغب في زيادة الإنتاجية وبالتالي تحقيق رضا وظيفي لمنسبيها، أن تمكنهم من اكتساب مهارات ناعمة من خلال التفويض بمهام جديدة بهدف تطوير مهاراتهم في مختلف المجالات ذات الصلة بعملهم وتحفيز قابليتهم لاكتساب تلك المهارات. الاهتمام بتنمية رأس المال البشري ضرورة قصوى ليصبح التميز بين أداء الموظفين وترقياتهم وفقا معايير الكفاءة التي من بينها التفوق في المهارات الناعمة على نحو يحقق الأمان والرضاء الوظيفي ومواكبة مستجدات أداء مهام الوظيفة في ظل تطور تقني متسارع، كما يتوجب أن تسعى مؤسسات التعليم العام والجامعي العمل على غرس هذه المهارات لدى الطلاب طيلة مسيرتهم الدراسية وفق برامج محددة تعنى بالتكوين النفسي والاجتماعي وتنمية القدرات التواصلية، حتى يصبح الخريج قادرا على المنافسة في سوق العمل التي باتت شديدة المنافسة، ولم تعد الشهادات وحدها كافية للحصول على الوظيفة سواء أكان في القطاع الخاص أو العام.