هل مات أبو الطيب المتنبئ في بوادي الكوفة وانقطعت سيرته وكف شعره عن الإرسال وخبا مثل لهب أضاء جمرة وانطفأ فصار بجدل هذه الحقيقة في غمار المجهولين؟
كلا فهو كل يوم يتجدد وفي كل لحظة يولد من نفسه مرة ثانية وكذا ستنسحب هذه الحالة على عاشقه الطيب صالح.
الرمزان حداثيان والحداثة ليست ذلك الغموض المتعمّد الذي نطالعه كل يوم، الحداثة هي قدرة النص على أن يظل على مدى القرون، هي الراهن الذي كتب في الماضي وهي الماضي المتجدد باستمرار في المستقبل، لذا لا فرق بين مصطفى سعيد وسيف الدولة!
من هنا يُكتَبْ للمتنبئ وعاشقه الخلود، خلود السيرة والنص واستمرارية الافتنان، إنهما يبشران من وُلد الآن ومن سيولد بعد ألف عام بالصدمة وبالدهشة!
منذ أن أنجز الطيب سقفه الأعلى (موسم الهجرة) ظل خالداً وهو على قيد الحياة، وكانت أبرز مظاهر هذا الخلود احتفال العالم به منذ أواخر الستينيات إلى أن يُعلِن الملاك يوم البعث. كان الطيب ضيفاً يومياً على احتفال لغة بمفردات رواياته حتى بلغت أرقاماً غطت كل لغات الكرة الأرضية.
إن لمن كريم لطف الله بي أن أجعل سبابتي شاهداً على واحد من تلك الاحتفالات الممتدة التي لن تنقطع فقد دعاني الصديق الفاتح إبراهيم أحمد، المقيم بواشنطن لأسبوع في شقته ضيفه الأساسي الطيب صالح ثم انضم الشوش بعدئذ لهذه (الحضرة). الفاتح رجل من علماء اللغة كان يرأس قسم الأخبار في تلفزيون السودان ثم صارت المهاجر في طاعته خليجاً وأطلسي وهو من أقرب الخلصاء للطيب صالح، وكان الطيب يثابر على قضاء شهر معه بواشنطن كل عام.
للطيب معارف على امتداد الرواية لكن أصدقاءه قليلون، منهم محمود عثمان صالح، حسن تاج السر، محمد الحسن أحمد، محمد إبراهيم الشوش، د. دقش، الفاتح إبراهيم أحمد، د. الباقر أحمد عبد الله وعبد الكريم الكابلي الذي يعطفه أيضاً على معشوقه المتنبئ في (مالنا كلنا جوى يا رسول).
هكذا وجدت نفسي أمامه، الطيب صالح بكل الذيوع المستعر والفكرة اللاهبة، وجدت نفسي أمام سلاحه الفتاك (البساطة)!
كان بسيطاً كلون القمر وكان نزّاعاً للعامية وأكثر ما يميز علياءه أنه (خاتي نفسو في الواطة)!
موعدي قد أزف مع جميرا رون المسؤولة عن مقعد السودان بمنظمة (هيومان رايتس ووتش) الأمريكية التي كلفني الزميل الصديق معاوية حسن يس بإجراء حوار معها لمجلة الوسط اللندنية، وكانت قد قَدِمت لتوِّها من جنوب السودان. أوضحت عنوان رون للفاتح وكُنَّا جميعاً بعربته فأوصلني لمنزلها واقترح الطيب أن يجلسوا على مقهىً يواجه منزل جوميرا ريثما أجري الحوار.
استقبلتني السيدة جوميرا وهي امرأة تقترب من خط الستين وتبدو على صفحات وجهها بعض (الكرمشة) ولا شيء يدل على أنوثتها غير أنها من (ذوات الثدي) بحكم الانتماء العضوي. وقبل أن ندخل في حوار أخبرتها بأن مجموعة تنتظرني بالمقهى فسألتني بفضول (الناشطات) في مضمار الشعار العالمي الصاعد (حقوق الإنسان) عنهم، فأخبرتها بأن أحدهم معروف وربما تكون قد سمعت به وعندما أيقنت بأنه الطيب صالح تبدّل وجه هذه الناشطة فازورّت تجاعيده وانسربت (كرمشته) وابتسمت ابتسامة مكنتني من رؤية طلاء ذهبي على أحد أضراسها وكانت تلك أول مرة أشاهد فيها ذهباً على فم أمريكي!
اتجهت نحو غرفة نومها وعادت بهيئة أخرى ثم تناولت (موسم الهجرة إلى الشمال) و(عرس الزين) و(مريود) باللغة الإنجليزية واتجهت معي للمقهى وحين كان الطيب يوقِّع على صفحات الكتب (الأوتوغراف) كان وجهها يلوّن إرساله، و(طايَبها) الطيب بكلمات نابعة من قلب نزع الله عنه مكامن البغضاء، ثم عدنا لشقة الفاتح.
في اليوم التالي وبعد انقضاء ذلك التوهُّج ذهبت لمكتبها بمقر المنظمة، كان شكلها الستيني حاضراً وكانت التجاعيد سيدة موقف وجهها، وأثناء إجاباتها على أسئلتي كانت روائح أبخرة تلف أنفي.. الخواجات لا يحسنون السواك.. لو كنت ولياً عليهم لأمرتهم بالسواك عند كل (مؤامرة)!
أعادها اسم الطيب صالح لسيرة الأنثى، ولما غاب عادت لحالتها الأولى.. ذلك بعض مما ظل يقدمه الخالد للسودان!.
حاشية :
أعيد نشر هذا العامود مرة ثانية ليجدد الذكرى السنوية لرحيل الروائي العالمي المرحوم الطيب صالح والذي يصادف احتفالات شركة زين العملاقة التي جعلت من ذكراه منتدى أدبيا لكل أدباء العالم.
- من ارشيف الكاتب