العبيد أحمد مروح
بعقوباتها الأحادية التي بدأت فرضها منذ مطلع هذا العام، على مؤسسات عامة وشركات خاصة وأفراد، في السودان، وشملت منظومة الصناعات الدفاعية السودانية وشركات تابعة لقوات “الدعم السريع” على دفعتين، ثمّ أفراداً مثل عبد الرحيم دقلو قائد ثاني قوات الدعم السريع المتمردة والأستاذ علي كرتي الأمين العام للحركة الإسلامية، بحجة أن تلك الكيانات وأولئك الأفراد “يعرقلون التحول الديمقراطي في السودان”، تكون الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى تعاقب إداراتها، قد أكدت – عملياً – أنها فشلت في أن تبني علاقة مستقرة مع السودان، على تعاقب وتناقض الأنظمة التي حكمته، هو الآخر، على مدى أكثر من ستين عاماً.
الاهتمام الأمريكي بالسودان ليس أمراً جديداً، فالسودان الذي كان الأكبر مساحة في قارته الأفريقية وفي عالمه العربي، والسودان ذو الموقع الجيوسياسي المتميز، والسودان الغني بثرواته فوق الأرض وفي باطنها، يشبه أمريكا في كثير من تفاصيله، بما في ذلك تعدد أعراقه وثقافاته، وكونه شعبٌ تشكل بالهجرات على مدى قرون، وكان يمكن أن يكون “ولايات متحدة أفريقية” لو أحسن آباءُ استقلاله، قبل ثمانية وستين عاماً ، إدارة شأنه وكيفية حكمه!!
ويبدو أن هذا الشبه، في الاتساع والتعدد والثروات، هو ما يفسر لنا جانباً من ذلك الإهتمام الأمريكي، ويلقي الضوء على الحفاوة التي أستقبل بها الرئيس كيندي نظيره السوداني إبراهيم عبود عندما زار هذا الأخير الولايات المتحدة الأمريكية في 1961م، حيث تمّ تجاهل كونه جنرالاً استلم الحكم في إنقلاب على نظام ديمقراطي منتخب، وجرت تسميته في وثائق تلك الزيارة ب “رئيس الوزراء السوداني”؛ وعاد بعد زيارة وصفت بالناجحة، محملاً بالوعود السخية، فقد التزمت الولايات المتحدة حينها بتعبيد طرقٍ تربط أطراف السودان ببعضها، وسمّت طريق الخرطوم – ود مدني ليتم رصفه بمسارين في كل إتجاه، وتعهدت بشق طريق من الخرطوم بمحاذاة النيل شمالاً، فضلاً عن تعهدها بإنشاء مدارس صناعية في مدن السودان الكبرى، لكن الدعاية السوفيتية وقتها، وأبواقها المحليون، صوّروا ذلك الكسب وكأن “أمريكا” تريد أن تقيم طرقاً عريضة لكي تستخدمها مهابط لطائراتها حينما تقرر غزو السودان، وشنوا حملة شعواء “نجحت” في وقف ذلك العون الأمريكي، الذي لم يكسب السودان منه إلا “شارع المعونة” !!
عادت الديمقراطية إلى السودان في العام ١٩٦٥ بعد عام من “ثورة أكتوبر” فلم تحفل بها الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الإهتمام الأمريكي بالسودان تصاعد عقب الإطاحة بتلك التجربة الديمقراطية في إنقلاب عسكري كان سمته يسارياً قاده العقيد – وقتها – جعفر نميري في ٢٥ مايو ١٩٦٩م، وتسارعت بعده خطوات النظام للتقارب من المعسكر الشرقي الذي كان يقوده الإتحاد السوفيتي، ولمّا حاول الشيوعيون بسط نفوذهم الكامل على السلطة في يوليو ١٩٧١ تدخلت الولايات المتحدة عن طريق حلفائها في المنطقة فأسهمت في فشل ذلك الانقلاب، وكنتيجة لذلك إتجه الرئيس نميري غرباً وبدأ تقاربٌ بين البلدين تمت ترجمة جانب منه بدخول شركة شيفرون في السودان للتنقيب عن النفط والغاز في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي.
تعاون نظام الرئيس نميري مع أمريكا في عدة مجالات، خاصة تلك التي تخدم أجندتها في المنطقة على أيام الحرب الباردة، ولعب السودان دوراً مؤثراً في دعم معارضي أنظمة حكم تدور في فلك المعسكر الشرقي، أبرزها نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا ونظام العقيد منغستو هايلي مريام في أثيوبيا، كما تعاون معها في تنفيذ عمليات نوعية مثل عملية ترحيل اليهود الفلاشا من أثيوبيا عن طريق شرقي السودان، لكن ذلك وغيره لم يشفع للنميري حين قرر أن يطبق أحكام الشريعة الإسلامية في بلاده، إذ سرعان ما قلبت له الولايات المتحدة ظهر المِجن فدعمت المعارضة الجنوبية المسلحة بقيادة جون قرنق، والتي أعلنت بيانها التأسيسي قبل إعلان تطبيق الشريعة بما يزيد عن ثلاثة أشهر، وأوقفت أمريكا عن السودان كل أشكال المنح والقروض من مؤسسات التمويل الدولية، وسحبت شركة شيفرون مهندسيها وعمالها من حقول النفط وأغلقت الآبار بالخرصانة، بعد أن حفرت أكثر من أربعين بئراً منتجة !!
وعلى الرغم من الإطاحة بنظام الرئيس نميري في ثورة شعبية، بدأت وهو في زيارة خاصة للولايات المتحدة الأمريكية، ومجئ حكم انتقالي أعقبه نظام ديمقراطي منتخب واستمر لما يزيد على ثلاث سنوات، إلا أن “العقوبات” الأمريكية غير المعلنة على السودان لم تُرفع والفتور الذي شاب علاقات البلدين ظل كما هو، فقد كانت أمريكا مهمته بأن يلغي رئيس الوزراء وقتها، الصادق المهدي، قوانين الشريعة الإسلامية، وأن يستجيب لشروط الحركة الشعبية لإحلال السلام بأن يجعل من السودان بلداً علمانياً، وأن يُحد من النفوذ الليبي في السودان، غير عابئة بمصير الديمقراطية الوليدة في البلاد والتي كانت تترنح تحت ضربات التمرد !!
لم يتغير الحال كثيراً، من حيث التوجه العام، حينما أطاح إنقلاب عسكري قاده العميد – وقتها – عمر البشير، بحكومة الصادق المهدي، بل بدأت الولايات المتحدة تضيّق الخناق على النظام الجديد بعدما تبينت أن له صلة وثيقة بالجبهة الإسلامية القومية وزعيمها الدكتور حسن الترابي واتخذت الولايات المتحدة سلسلة من خطوات التحرش السياسي بنظام الإنقاذ بعدما اتهمت السودان بدعم الإرهاب من خلال الشيخ عمر عبد الرحمن الذي غادر بلاده إلى السودان ثم غادره للعيش في أمريكا، فبدأت في العام ١٩٩٣ عقوبات تدريجية على السودان، وظلت تشددها كلما سنحت لها الفرصة بحجة جديدة، فكان وجود الشيخ أسامة بن لادن في السودان، وكان الإتهام بالاشتراك في محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك ١٩٩٥ وكان تفجير سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا ١٩٩٨ وكانت عملية تفجير برجي التجارة في نيويورك ٢٠٠١م وكانت عملية المدمرة كول في ساحل اليمن ٢٠٠٢، وكانت الحرب في دارفور ٢٠٠٣، إذ دونما دليل يعتد به اعتبرت أمريكا حكومة السودان متورطة في تلك الوقائع وأخذت في كل مرة تشدد خناقها على نظامه مستخدمة سلطات الكونغرس تارة والسلطات التنفيذية للرؤساء تارة أخرى، وأثناء ذلك كله ظل الدعم السياسي والإعلامي، وأحياناً العسكري متصلاً للمعارضة بشقيها بغية الإطاحة بنظام الإنقاذ.
بعد ثلاثين عاماً من العلاقة المضطربة مع نظام الإنقاذ، كانت أشبه بعلاقة “الكر والفر” نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في إسقاطه، وقد تصورت قطاعات واسعة من السودانيين أنه بمجرد ذهاب النظام فإن أمريكا سترفع إسم بلادهم من القائمة المسماة “دعم الإرهاب” والتي وضعتها هي وحددت معايير الدخول إليها، وأنها – أمريكا – ستهب لتعويض السودانيين عن سنوات الحصار الاقتصادي الذي فرضته على بلادهم بحجج زائفة، فتسمح لنظامهم المصرفي بالاندماج في منظومة النظام المالي العالمي، وتوعز إلى “بوينج” للترتيب لشراكة استراتيجية مع “سودانير” بعد أن حرمها الحصار المتطاول من الحصول على قطع الغيار، وتسمح لقاطرات السكة الحديد أن تستعيد مجدها بعد أن أقعدها الحصار هي الأخرى، فيتعزز النقل وينشط القطاع المصرفي، وتتدفق الإستثمارات فيزدهر الإقتصاد وتتصاعد معدلات نموه.
وكانت قطاعات واسعة من السودانيين يتصورون أن أمريكا ستمارس سياسة الضغط والإغراء على الجماعات المسلحة المعارضة فيُقبلون مسرعين للإنضمام إلى ركب السلام والبناء والتعمير، وكان شباب السودان يتطلعون إلى نظام ديمقراطي تكون السلطة فيه منتخبة ومعبرة عن الإرادة الحرة للمواطنين، ويتصورون أن أمريكا ستكون نصيرهم في ذلك .. وكان .. وكان !!
لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وتبخرت كل هذه الأحلام، بل تحول بعضها إلى كوابيس، وبدا أن أمريكا مهتمة بصغائر الأمور وسفاسفها، وأن أولوياتها في السودان مختلفة تماماً؛ فهي تشترط أن يكون مهر رفع إسم السودان من قائمتها لدعم الإرهاب هو التطبيع مع إسرائيل وهي تشترط فوق ذلك، أن تدفع حكومة السودان “فدية” من عرق شعبه لتلغي محاكمها عنه تهمة عن جريمة لم يرتكبها، وهي مهتمة بإباحة الخمر والميسر والربا، وبحقوق المثليين، وهي كذلك تريد أن تعيد صياغة مناهج التعليم وقوانين الأحوال الشخصية لكي “تجتث جذور التطرف والإرهاب” ولهذا نجدها قد اختارت مَن تعتقد أنهم الأقدر على تنفيذ مشروعها في السودان، واعتبرتهم “سلطة مدنية”، كيف لا وهي مَن تضع معايير الأشياء !!
خمسة وعشرون شهراً، وأبناء أمريكا وأحباؤها من المدنيين، يُحكمون قبضتهم على السلطة في الخرطوم، يمارسون كل أنواع العسف ضد خصومهم السياسيين ويبحثون عن فرص الثراء السريع بينما يعاني شعب السودان من الفقر والمسغبة، في الوقت الذي ينشغل فيه بعض حلفاء أمريكا في المنطقة بنهب ثروات البلاد وببناء شبكة من العملاء السياسيين وبناء مليشيا موازية لجيش السودان، كما فعلوا في ليبيا المجاورة وفي اليمن الجريح !!
كان من الطبيعي، والحال كذلك، أن تهتز الأرض تحت كراسي السلطة الجديدة، وأن يبدأ السودانيون يجهرون بالقول بعد أن جأروا بالشكوى، وكان من الطبيعي كذلك أن يكون الإسلاميون في طليعة مَن تصدوا لكشف الزيف الأمريكي وتبيان الخديعة التي تعرض لها السودانيون وسرقة أحلامهم، وبدلاً من أن تسارع أمريكا لتلافي أخطائها، وتقويم سلوك مَن سلّطتهم على رقاب السودانيين، سارعت لإشهار عصا التهديد والوعيد، وقالت إنها ستعتبر أن كل مَن يعارض هذه المجموعة المتسلطة معرقلاً للتحول الديمقراطي!!
مشكلة العالم كله، وليس السودانيين وحدهم، مع الولايات المتحدة الأمريكية هي أنها تصر أن تنفرد هي بتحديد معايير الأشياء، فهي مَن تحدد معايير الديمقراطية ومعايير الحرية والعدالة والإرهاب وحتى معايير الجنس البشري. ولهذا فستبقى مشكلتها مع شعب السودان أبدية، لأنه شعب حر، لا يرضى الضيم ولا يقبل أن يحدد له طرف خارجي خياراته في الحياة، ولا يقبل أن يحكمه مَن يخضعون لإرادة الخارج.