السعودية ومحمد بن سلمان مفتاح حل أزمة السودان عبر بوابة الاستثمار

لم تعد الأزمات الكبرى تُحلّ فقط في غرف التفاوض السياسية أو عبر الوسطاء التقليديين، بل باتت تُدار أيضًا من بوابات الاقتصاد والاستثمار ورؤى التحول الاستراتيجي. وفي ظل الحرب المدمّرة التي تعصف بالسودان منذ الخامس عشر من أبريل 2023م، كانت المملكة العربية السعودية و لا تزال فاعل أصيل وركن راسخ في هندسة السلام الإقليمي. لكن الجديد هذه المرة هو أن الرياض نجحت في نقل ملف السودان عبر بوابة الاستثمار إلى دائرة الضوء و الاهتمام، وأعادت وضعه على طاولة القوى الفاعلة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة ورئيسها دونالد ترامب، الذي أعلن للمرة الأولى بدايةَ انخراط أميركي مباشر لوقف الحرب، بناءً على طلبٍ صريح وعاجل من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
بهذا التحرك الموحى بدقةٍ ووعيٍ سياسي–اقتصادي، تفتح السعودية باباً جديداً لمعالجة الأزمة السودانية، باباً عنوانه؛ الاستثمار بوابة الاستقرار و مدخله.
منذ الأيام الأولى للحرب، لم تتعامل السعودية مع الملف السوداني كقضية هامشية أو عابرة، بل تعاملت معه بوصفه جزءاً أصيلاً من أمنها القومي، ومصلحة مباشرة لأمن البحر الأحمر واستقرار القرن الأفريقي. وهكذا تبنّت المملكة استضافة منبر جدة، وأطلقت هذا المنبر كأول إطار جاد وواقعي لاحتواء الكارثة الإنسانية، والذي انتهى بميلاد اتفاق 11 مايو 2023م، والذي ألزم الأطراف بالالتزامات الإنسانية، والخروج من الأعيان المدنية، وتأمين الممرات الإنسانية. هذا الاتفاق—رغم عرقلة تنفيذه—شكّل أول وثيقة رسمية تُعرّي جرائم المليشيا وتُرسّخ الموقف الأخلاقي والقانوني الدولي للسودان.
كذلك فإن انخراط السعودية داخل «الرباعية» (السعودية، أمريكا، بريطانيا، الإمارات) لم يكن مشاركة رمزية، بل كان قيادة ناعمة ومحورية هدفها دفع الأطراف—خاصة الولايات المتحدة—للتحرك وفق معالجة عادلة تُنهي الحرب ولا تُكافئ التمرد.
ورغم تعثر الرباعية بسبب انحياز بعض أطرافها، ظلت المملكة الطرف الأكثر اتزاناً، والأقرب للسودان، والأقدر على فهم تعقيدات الحرب وطبائع القوى الفاعلة فيها.
ظلت المملكة العربية السعودية تخوض منذ سنوات تحولها الأعظم عبر رؤية 2030م، وهي رؤية جوهرها “الاقتصاد محرّك الأمن… والاستثمار طريق الاستقرار”.
هذه الرؤية العملاقة—التي تقودها عقلية شابة جريئة يمثلها سمو الأمير محمد بن سلمان—تحتاج إلى بيئة إقليمية آمنة ومستقرة لبلوغ أهدافها في تنويع الاقتصاد، التحول للطاقة النظيفة، حماية خطوط التجارة البحرية، تأمين البحر الأحمر كعمود فقري لمشروعات نيوم واللوجستيات، وتوسيع النفوذ الاقتصادي للمملكة نحو أفريقيا. ولا يمكن تحقيق ذلك دون سودان قوي، مستقر، وموحد. لذلك أصبح السودان—بموقعه، وسواحله، وموارده، ومجاله الحيوي و الاستراتيجي المتداخل مع المجال الحيوي و الاستراتيجي بالبحر الأحمر —جزءاً جوهرياً من مصالح السعودية الأمنية والاقتصادية و امتدادًا طبيعيًا للأمن القومي للملكة العربية السعودية.
أدركت المملكة العربية السعودية أن أفضل منصة للتأثير على صانع القرار الأمريكي ليست جلسات السياسة، بل منصة الاستثمار و منتدياته حيث يفكر ترامب بعقله الحقيقي “عقلية التاجر”. وفي منتدى الاستثمار السعودي–الأمريكي، استثمر ولي العهد اللحظة باحتراف نادر، وقدم لترامب ملف السودان بلغته الخاصة، اللغة التي يفهما و يحبها و يستوعبها؛ لغة المصالح، الأرقام، الفرص، التاريخ، والثقافة.
وقد قال ترامب بوضوح أن الأمير محمد بن سلمان:” قدّم له شرحاً مفصلاً عن السودان، تحدث بلغة فهمها ترامب تماماً، أعاد تعريفه بالسودان خلال نصف ساعة، جعله يرى أن إنهاء الحرب سيكون «أعظم إنجاز» يمكن أن يحققه”. هذه لحظة سياسية فارقة، تكشف الشفرة الخفية في التحول الأمريكي المفاجئ نحو السودان. إنها ليست مبادرة سياسية؛ بل صفقة استراتيجية أُطلقت من بوابة الاقتصاد والاستثمار حيث كان منتدى الاستثمار السعودي – الامريكي لحظة ذهبية في مسار ازمة السودان.
والملاحَظ في ما جرى بالأمس أنّ ملف السودان انتقل أخيرًا من مستوى المستشارين والوزراء إلى مستوى القمة الرئاسي؛ وهي نقلة نوعية طال انتظارها، إذ لم يعد التعاطي الأميركي مع القضية عبر موظفين من الدرجة الثانية أو الوسطى، بل أصبح في أعلى مستويات القرار، بين رئيس الولايات المتحدة وولي العهد السعودي مباشرة. وهذه النقلة وحدها تمثل تحوّلاً في وزن السودان داخل ميزان المصالح الإقليمية والدولية.
كما أن اختيار سمو ولي العهد طرحَ أزمة السودان داخل محفل استثماري بحت لم يكن عملاً عابراً أو مجرد مصادفة، بل كان قراراً محسوباً بدقة؛ فقد قدّم القضية في البيئة التي يحبها ترامب وتستجيب لها روحه وعقليته التجارية، حيث يلتقي المال بالسياسة والصفقة بالاستراتيجية. لقد أدرك سموه أن الحديث مع ترامب داخل أجواء الاستثمار أكثر تأثيراً من أي لقاء سياسي تقليدي، فكانت تلك اللحظة هي المدخل الذهبي لإعادة تعريف السودان أمام الرئيس الأميركي.
ويبدو أن الرئيس التاجر ترامب قد اقتنع بضرورة دخوله في حل أزمة السودان عبر لغة المصالح، فالرئيس ترامب لا يخفي أنه يدير السياسة الخارجية كما يدير صفقاته التجارية.
هو نفسه قال ذلك علناً:
“I am good at settling conflicts… I used tariffs to stop wars.”
وقدّم أمثلة على تسوية صراعات كبرى بين الهند وباكستان، وبين أذربيجان وأرمينيا، باستخدام أدوات اقتصادية. وعندما دخل ملف السودان إلى عقل ترامب من بوابة الأرقام، والثروات، والموارد، والموانئ، والموقع، والبحر الأحمر—انفتح الباب. وحين شرح له الأمير محمد بن سلمان “ثقافة السودان وتاريخه كله”—كما قال ترامب—تغيّر إدراكه للسودان من مرتزقة بلا دولة إلى دولة ذات عمق حضاري وثروات هائلة وشعب متنوع عريق. هذه هي النقطة التي التقطها ترامب، ومن خلالها أعلن: “بدأت العمل بعد نصف ساعة من لقائي مع ولي العهد.”
لم تأتِ مبادرة السعودية من فراغ، فالسعودية تقود المنطقة الآن عبر الاقتصاد والسلام التنموي
فمنذ تولّي محمد بن سلمان دفة القيادة، تغيّر نموذج الحكم السعودي من نموذج القوة التقليدية إلى نموذج القوة الاقتصادية والاستثمارية. وتجلّى ذلك وبوضوح في:
مشروع نيوم “مشروع القرن”، نيوم ليست مدينة بل منظومة جيواستراتيجية تعيد تشكيل مستقبل البحر الأحمر والخليج والأردن ومصر والسودان.
وتجلى كذلك في “تحقيق الأمن عبر التنمية”، فالسياسة السعودية أصبحت تؤمن بأن الاقتصاد هو أقصر الطرق إلى الأمن. وبالتالي فإن بقاء السودان ضعيفاً وممزقاً يعني تهديد خطوط التجارة، تهديد مشروعات نيوم، تهديد أمن البحر الأحمر، وفتح الباب لتدخلات خبيثة من دول تخرب ولا تبني. ولهذا تعمل السعودية على أن يكون السودان مستقراً، موحداً، شريكاً اقتصادياً، وخط دفاع استراتيجي على البحر الأحمر.
السعودية وعبر تأريخها القديم أو الحديث لم تؤذِ السودان يوماً، ولم تمارس تجاه السودان أي ضرر أو حصار أو خنق سياسي أو دعم لمليشيات أو تمرير سلاح مهرب، لم تدعم اعداء البلاد و لم تفتح ارضيها لتكون قاعدة انطلاق و دعم لوجستي لهم. بل كانت دائماً أرض الملاذ للسودانيين، الداعم الإنساني الأول، الواقف مع السودان في كل المحن، الداعم للاستقرار لا الفوضى، الرافض لأي مشروع لتقسيم السودان، المنادي بوقف الحرب فوراً. وضمنت للمقيم السوداني مكانة مميزة في قوانين الإقامة والعمل، بل فتحت ذراعيها في اعقاب اندلاع الحرب تحتضن السودانيين الباحثين عن ملاذاتٍ آمنة، و عمدت لتغيير و تعديل و اسثناء في لوائحها و قوانينها بما يسهل على السودانيين اقامتهم بها. ولأن البحر الأحمر هو المجال الحيوي المشترك، فإن حماية الظهر هنا واجب استراتيجي متبادل.
و لربما يطرأ دوما تساؤل، لماذا ليست الإمارات وسيطاً مناسباً؟ و الاجابة باختصار أن الإمارات—بسبب انحيازها الواضح ودورها العسكري والسياسي في دعم التمرد—لم تعد طرفاً محايداً مؤهلاً للوساطة. والسودان لا يمكن أن يقبل وساطة طرفٍ هو جزء من المشكلة. ولهذا كان من الضروري أن تنتقل قيادة الملف إلى السعودية وأمريكا.
من جهة اخرى، و بتصريحات الرئيس الأمريكي ترانب بالامس، فقد تأكد بأن السيد مسعد بولس كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشؤون الافريقية هو الحلقة الأضعف. مسعد بولس لم يكن مؤهلاً لقيادة ملف بهذا التعقيد، لا من حيث الكفاءة، ولا من حيث المعرفة، ولا من حيث النزاهة.
وقد كشفت تصريحات ترامب—حين ادعى أنه “لم يكن يعلم ما يجري في السودان”—عن خلل واضح في طريقة تقديم بولس للملف للإدارة الأمريكية… أو عن مناورة تجارية من ترامب. في كل الأحوال النتيجة واحدة و مفادها أن ولي العهد السعودي هو الذي أعاد تعريف السودان لدى واشنطن.
كذلك فإن تصريح رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بأن: “السودان حليف حيوي في البحر الأحمر”، يكشف تحولاً استراتيجياً يجب أن يستعد له السودان برؤى جديدة في الأمن البحري، الاقتصاد الأزرق، سلاسل الإمداد، الموانئ واللوجستيات، و مشروعات التكامل مع السعودية ومصر. هذا إعلان أمريكي رسمي بأن السودان مهم؛ وأن البحر الأحمر هو ساحة التنافس المقبلة.
لقد أثبتت التطورات الأخيرة أن السعودية ومحمد بن سلمان هما مفتاح الحل الحقيقي لأزمة السودان، ليس لأن المملكة تبحث عن نفوذ أو مكاسب على حساب الخرطوم، بل لأنها تؤمن بأن استقرار السودان هو استقرار للبحر الأحمر… واستقرار للمنطقة… واستقرار لمشروعات المملكة ورؤيتها 2030م. وعندما تضع الرياض ثقلها في ملف ما، وتفتح له بوابة الاستثمار، وتُقنع واشنطن بجدواه… فإن هذا الملف ينتقل من دائرة الأزمات إلى دائرة الحلول. والسودان اليوم أمام منعطف تاريخي. الفرصة خرجت من رحم الحرب… وجاءت من منصة الاستثمار…وعبر بوابة الرياض تحديداً.
ويبقى على السودانيين—سياسياً وعسكرياً وشعبياً—أن يلتقطوا اللحظة، ويُعدّوا رؤاهم واستراتيجياتهم للمرحلة المقبلة مرحلة البناء… والتكامل الاقتصادي… واستعادة الدولة… والانطلاق نحو المستقبل.
الخميس 20 نوفمبر 2025م



