
بقلم: د. أمجد عمر محمد
حين نفكر في الزواج، لا بد أن ندرك أنه ليس مشروعًا اجتماعيًا لإرضاء الآخرين، ولا قرارًا مؤقتًا مبنيًا على انبهار لحظي أو رغبة عائلية، بل هو اختيار مصيري يحدد مسار الحياة المستقبلية للزوجين نفسيًا واجتماعيًا وعاطفيًا. فالحب والمودة والانجذاب بين الشريكين ليست مشاعر سطحية أو مؤقتة، بل هي أساس في بناء استقرار حقيقي ودائم، كما أن وضوح كل طرف منذ الخطوبة وعدم إخفاء صفاته الحقيقية يجنب كثيرًا من الأزمات التي قد تقود إلى فشل العلاقة وانهيارها لاحقًا.
العديد من حالات الطلاق اليوم لا تنشأ من خلافات كبيرة أو مشكلات مستعصية، بل من انكشاف شخصية مغايرة لما أظهره أحد الطرفين قبل الزواج. حين يُبنى الارتباط على التجمّل والتصنّع، تكون النتيجة غالبًا صدمة ما بعد الزواج، حيث يظهر الواقع بما يحمله من اختلافات غير متوقعة. لذلك، فإن الصدق والشفافية خلال فترة الخطوبة هي حجر الأساس لأي علاقة ناجحة.
الزواج السليم يقوم على التوافق، لا على التشابه المطلق. فلكل شخص طباعه وخلفياته، لكن هناك مساحات من التلاقي ينبغي أن تكون واضحة ومقبولة بين الطرفين. في مقدمة هذه المساحات يأتي التوافق الديني والقيمي، فحين يتقارب الزوجان في فهم الدين والتزام القيم الأخلاقية، يكون التعامل بينهما أكثر احترامًا وتوازنًا، وتغدو قرارات الحياة المشتركة مبنية على أسس راسخة.
وينبع من هذا التوافق أيضًا نوع من التفاهم النفسي والعاطفي، حيث يشعر كل طرف بالقبول والارتياح تجاه الآخر، ويجد لديه مساحة آمنة للتعبير عن مشاعره دون خوف أو تردد. الانجذاب وحده لا يكفي، بل لا بد أن يصاحبه فهم عاطفي مشترك، ولغة وجدانية تربط بين القلوب.
ويتعمق هذا التفاهم حين يهتم الطرفان بالجانب الروحي والنفسي في علاقتهما. فالاتفاق على المبادئ الروحية، ودعم الصحة النفسية لكل طرف، يخلق استقرارًا داخليًا يجعل العلاقة أمتن وأهدأ. وهذا النوع من التوازن النفسي والروحي هو ما يُعين الزوجين على مواجهة ضغوط الحياة وتجاوز المشكلات اليومية بروح متفهمة وهادئة. من هنا، تتكون بيئة أسرية دافئة تحتويها المودة والحنان، وهي البيئة المثلى لتنشئة أطفال سويين نفسيًا وعاطفيًا، قادرين على مواجهة الحياة بثقة وسلام داخلي.
هنا يظهر دور العائلة الحقيقي، فبدلاً من الاكتفاء بفرض رأيها أو الانشغال بالمظاهر الخارجية من لباس الزفاف والاحتفالات، ينبغي أن يكون دورها الأساسي هو إعداد أبنائها وتأهيلهم للزواج نفسيًا وفكريًا، وتعريفهم بجوهر هذه الخطوة وأبعادها. فالزواج ليس لحظة فرح أمام الناس، بل حياة مستمرة قائمة على الحقوق والواجبات، وعلى كل طرف أن يعرف دوره جيدًا، ويتعلم كيف يتناغم مع الطرف الآخر حتى وإن أتيا من بيئات أو عائلات مختلفة. التناغم لا يعني التشابه، بل القدرة على التفاهم والاندماج في إطار من الاحترام والمرونة، وهو ما يجب أن تغرسه العائلة في أبنائها قبل أن تدفعهم نحو الزواج.
ومن هنا، يجب التأكيد على أن قرار الزواج، وإن بدا لحظة حالية، إلا أن نتائجه مستقبلية، طويلة الأمد، تمتد لتشكّل المستقبل كله. لذا فإن الاختيار لا يجب أن يُبنى على ما هو آنٍ أو سطحي، بل على الرؤية المستقبلية الواعية: من تريد أن تكون أمًا أو أبًا لأبنائك؟ من تستطيع أن تكبر وتتطور معه؟ من يليق بك حين تصبح في موقع مهم، أو مشهور، أو تمر بمرحلة ضعف او قوة؟ الزواج ليس فقط لحظة جميلة في الحاضر، بل رفيق درب طويل في كل مراحل الحياة، لذا فاختيار هذا الرفيق يجب أن يكون مدروسًا بعمق ومسؤولية.
ثم تأتي أهمية التقارب في التفكير والثقافة، فكلما تقاربت العقول، تلاقى الحوار وقلّت الفجوات. بعض الاختلاف في الخلفية الفكرية قد يكون ثريًا، لكن التضاد الشديد في طريقة التفكير ونمط الحياة يُضعف قدرة الطرفين على التفاهم في أبسط المواقف.
البيئة الاجتماعية والعادات التي نشأ فيها كل طرف تؤثر أيضًا في التفاعل اليومي داخل الحياة الزوجية. وحين تكون الفروق كبيرة دون وعي مشترك أو استعداد للتكيف، تظهر الصراعات. لذلك، من المفيد أن يكون هناك انسجام في الطباع العامة والعلاقات الاجتماعية وطريقة واسلوب التعاطي معها.
أما الجانب المالي، فرغم أنه كثيرًا ما يُختزل في مستوى الدخل، إلا أن التوافق المالي الحقيقي يعني التفاهم حول أسلوب التعامل مع المال وتوزيع المسؤوليات المادية بين الطرفين بما يتناسب مع إمكانياتهما، وليس بالتساوي في الغنى أو المستوى المادي. فالكثير من الخلافات المالية لا تتعلق بالمبالغ بقدر ما تتعلق بطريقة التفكير المالي ومدى التعاون والتفاهم فيه.
ولا يمكن إغفال أهمية القبول الجسدي والجمالي، فهو عنصر فطري وطبيعي في العلاقات الإنسانية. لكن الجمال وحده لا يصنع السعادة، بل القبول العام والشعور بالراحة البصرية والنفسية تجاه الشريك هما ما يعمّق الرابط ويمنح العلاقة دفئها.
في زمن الثورة المعلوماتية والانفتاح على أنماط الحياة المتعددة، لم يعد كافيًا أن نختار شريكًا بناءً على رغبة الأهل، أو مستوى تعليمي، أو مظهر اجتماعي خارجي. الزواج قرار آني لكن نتائجه طويلة الأمد، وقد تمتد لتؤثر في أجيال قادمة. ومن الخطأ أن يُبنى على رغبة مؤقتة، أو ضغط مجتمعي، لأن الواقع بعد الزواج مختلف تمامًا. فعندما تنتهي مظاهر الاحتفال، ويُغلق الباب، يبدأ الواقع المشترك، ويبدأ التحدي الحقيقي.
ولا يعني هذا إغفال رأي العائلة تمامًا، فمشاركة الأهل في التفكير والنصيحة قد تكون مفيدة، خصوصًا إن كانت نابعة من محبة وخبرة، لكن يجب أن تبقى الأولوية الكاملة للاختيار بيد الطرفين فقط، لأنهما من سيعيشان معًا، ويتشاركان الحاضر والمستقبل، لا أحد سواهما.
قال الله تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً” [الروم: 21]، وهذا السكن القلبي لا يتحقق بالمال أو المنصب، بل بالتفاهم والمودة والرحمة المتبادلة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه…”، في إشارة واضحة إلى أن الدين والخلق هما القاعدة الثابتة التي تُبنى عليها حياة مستقرة.
الزواج لهم، لا للناس. لا للأقارب، ولا للمجتمع، ولا لآراء المتابعين على مواقع التواصل. هما من سيعيشان معًا، وهما من سيتحملان قرارات اليوم غدًا، في الحزن والفرح، في التحديات والنجاحات. فليكن الاختيار صادقًا، ناضجًا، مبنيًا على تفاهم ومحبة، لا على ضغوط أو معايير زائفة.